بقلم: ماريا معلوف
ليست جولة رئاسية عادية، ولا زيارة بروتوكولية، تلك التي سيقوم بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج العربي — لا ما يسمى “الخليج الفارسي” كما تروج طهران. إنها عودة قائد استثنائي إلى قلب الإقليم الذي شكّل عنواناً لتحولات عالمية كبرى في العقدين الأخيرين.
الرئيس ترامب، الذي استعاد مفاتيح البيت الأبيض بإرادة شعبية قلبت الموازين في الداخل والخارج، يتجه هذا الأسبوع إلى السعودية، والإمارات، وقطر، في جولة تُقرأ على أنها إعادة تشكيل حقيقية لخريطة الشرق الأوسط — ولكن هذه المرة، وفق قواعد ترامب، لا وفق حسابات الدولة العميقة أو بيروقراطية واشنطن.
السعودية: الشراكة الصلبة تعود… بنَفَس نووي
السعودية لم تنس أن أول زيارة خارجية لترامب في ولايته الأولى كانت إلى الرياض، حيث أطلق من هناك “التحالف الإسلامي ضد الإرهاب”، وصفقات كبرى في الدفاع والطاقة، ورؤية جديدة للأمن الإقليمي. اليوم، تعود العلاقة، لكن من موقع أكثر نضجاً وصلابة. لا دروس في حقوق الإنسان، لا تهديدات بوقف السلاح، لا ابتزاز ولا تبعية.
بل شراكة ندّية، عنوانها “الأمن مقابل التحالف الاستراتيجي”، وقاعدة مفادها أن الرياض باتت تملك الضوء الأخضر لتطوير برنامج نووي سلمي بدعم تقني أميركي — تطور أثار امتعاضاً كبيراً لدى تل أبيب، وخاصة لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يرى في ذلك تقارباً قد يُضعف أوراق الضغط الإسرائيلي داخل واشنطن.
الزيارة تأتي أيضاً في ظل مفاوضات أميركية-إيرانية نشطة تجري خلف الكواليس. وتشير مصادر مطلعة إلى أن ترامب يريد من الرياض أن تكون حاضنة لتلك المفاوضات، لا مجرد مراقب. وليس من المصادفة أن زيارة وزير خارجية إيران السابق، عباس عراقتشي، إلى السعودية جاءت عشية زيارة ترامب، في ما وصفه البعض بأنه تهيئة مسرح ديبلوماسي جديد تحت رعاية خليجية.
الإمارات: منصة الذكاء والاستقرار
في حسابات ترامب، الإمارات ليست مجرد حليف تقليدي، بل منصة استقرار إقليمي ومختبر طموح للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. من أبوظبي بدأت “اتفاقيات أبراهام”، واليوم، يريد ترامب تفعيل تلك الاتفاقيات كجزء من مشروعه لشرق أوسط جديد تحكمه المصالح لا الأيديولوجيا.
الملفات مع الإمارات تمتد إلى العلاقات الصينية-الخليجية، وأمن الممرات البحرية، والاستثمارات في الطاقة النظيفة، وهي ملفات تُعد من أولويات حملة ترامب الاقتصادية على المستوى العالمي.
قطر: شريك غير مريح… ولكن ضروري
رغم تاريخ طويل من التوترات، لا ينظر ترامب إلى قطر كخصم، بل كشريك محتمل في إدارة ملفات معقدة — من أفغانستان إلى غزة، ومن الدور التركي إلى التوازنات مع إيران.
الدوحة تمتلك أدوات نفوذ في الإعلام والمال، لكن إدارة ترامب تعتقد أن هذا النفوذ بحاجة إلى إعادة ضبط أميركي، لا مواجهة مفتوحة. لذلك، تأتي زيارته للدوحة ضمن حسابات دقيقة، محمّلة برسائل صريحة: الخليج ليس ساحة فوضى مفتوحة، بل ساحة قرار محسوب، ومن يرد الشراكة فعليه أن يلتزم بقواعد اللعبة الأميركية الجديدة.
كوشنر يعود… والطبخة تُطبخ في المنطقة
في خلفية هذه الجولة، يعود إلى الواجهة جاريد كوشنر، مهندس اتفاقيات أبراهام، الذي يلعب دوراً محورياً خلف الكواليس في ترتيب الملفات السياسية والاقتصادية بين واشنطن وحلفائها في الخليج. كوشنر، الذي يحتفظ بعلاقات شخصية رفيعة في الرياض وأبوظبي وتل أبيب، يُعتبر الجسر غير الرسمي في بناء التسويات، خصوصاً في ما يتعلق بملف التقارب السعودي-الإسرائيلي الذي ما زال يصطدم بعقبات داخلية في الطرفين.
ووفق مصادر مطلعة، فإن كوشنر يسعى إلى “تحييد الملف الفلسطيني مؤقتاً”، لصالح بناء مظلة أمنية واقتصادية إسرائيلية-خليجية-أميركية، على أن تُستأنف المفاوضات لاحقاً بعد ترتيب البيت الإقليمي.
خارطة جديدة… بقلم ترامب لا بايدن
الجولة الخليجية للرئيس ترامب هي إعلان صريح عن عودة أميركا القوية إلى قلب الشرق الأوسط — ولكن بنسخة مختلفة عن “أميركا الديمقراطية التبشيرية” التي مثّلها بايدن. لا مزيد من الحروب المجانية، لا دبلوماسية مرتجلة، لا خطاب فوقي.
بل تحالفات نفعية مبنية على الربح المشترك، وأمن متبادل، وعقود شفافة.
في ظل تراجع أوروبي، وتمدد صيني-روسي في المنطقة، يعيد ترامب تمركز أميركا كلاعب أساسي لا يمكن تجاوزه. ومن الرياض وأبوظبي والدوحة، لا من واشنطن وحدها، تُرسم ملامح السياسة الخارجية الأميركية الجديدة.
العالم على عتبة تغيير.
وترقبوا جيداً هذه الجولة… لأنها ليست مجرد زيارة، بل إعلان عن ميلاد شرق أوسط جديد.