شغف مشترك.. التحالف الأمريكي-الإسرائيلي في قلب معركة إجهاض المشروع النووي الإيراني

بقلم فيصل مرجاني

منذ استقلال دولة إسرائيل، رسّخت هذه الدولة نفسها نموذجاً فريداً للصبر الاستراتيجي والرصانة الأمنية، حيث لم تكن تصرع أمام أي استفزاز عابر أو تهديد مرحلي، بل أرسَت منظومة أمنية متقدمة مبنية على تفوق استخباراتي وعسكري وتقني عالي الجودة، يمكّنها من إدارة ملفات وجودها المعقدة في بيئة إقليمية محفوفة بالتحديات والتهديدات المتزايدة. هذه المنظومة لم تتوقف عند حدود الردع الكلاسيكي، بل امتدت إلى تطوير آليات الاستباقية والحسم الحازم حين تتطلب مصلحة الأمن القومي ذلك، وهو نهج أثبتت فاعليته في مواجهة أزمات متعددة عبر العقود.

هذا الصبر الاستراتيجي لم يكن هروبًا من المواجهة، بل آلية لضبط إيقاع الصراع وفق رؤية متقدمة ترتكز على استباق المخاطر عبر ضرب مصادر التهديد في مهدها، وتفكيكها قبل أن تتبلور إلى أزمات كبرى. مع مرور الوقت، فقد شكّلت إسرائيل نموذجًا فريدًا للاعتماد على منظومة أمنية متطورة، تجمع بين القوة الصلبة والمرونة الاستخباراتية، لتعيد تعريف مفهوم الاستقلال ليس كحد أدنى من الحقوق السياسية، بل كقوة فاعلة ومهيمنة على أرض الواقع، قادرة على صياغة موازين القوى الإقليمية وإعادة رسم خطوط الاشتباك بما يحفظ وجودها ويعزز مكانتها الاستراتيجية.

في سياق الشرق الأوسط المتقلب، كانت إسرائيل وستظل من الدول القليلة التي تنظر إلى الأمن الوطني من منظار شمولي يمتد إلى أبعاد جيوسياسية، تقنية، واستراتيجية، يراكم عبرها تفوقًا مستدامًا يكرّس سيادتها ويضمن قدرتها على الصمود في وجه التهديدات المتزايدة، مهما اختلفت أشكالها وتجلياتها

على مدار عقود من المواجهة، عكست العقيدة الأمنية الإسرائيلية ميلاً واضحًا إلى الجمع بين ضبط النفس في مراحل التهدئة والحسم القاطع في أوقات التصعيد، متبنيةً استراتيجية الردع الاستباقي والهجوم الوقائي حيثما استشعرت أن التهديد بدأ بالتبلور إلى خطر وجودي. وإذا كان صعود النظام الإيراني وأذرعه العسكرية والإيديولوجية في لبنان والعراق وسوريا واليمن قد أفرز ديناميكية أمنية مركّبة شكلت تحديًا حقيقيًا للأمن الإسرائيلي والإقليمي على حدٍّ سواء، فإن إسرائيل أظهرت قدرة استثنائية على التعامل مع هذا المحور التوسعي بسياسة أمنية عميقة ودقيقة، تستهدف جذور التهديد وليس مظاهره السطحية فقط.

فمع هجوم السابع من أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة من التأهب الأمني، حيث كشف هذا الهجوم المعقد وغير المسبوق عن هشاشة مؤقتة في منظوماتها الاستخباراتية والتنسيقية، مما استدعى إعادة تقييم شاملة لمنهجياتها الأمنية. لم تكن هذه الهجمة المكثفة، المدعومة بشبكة إقليمية تضم أذرعًا إيرانية في لبنان وسوريا والعراق، مجرد عملية عسكرية عابرة، بل كانت استعراضًا لقدرات متطورة ومتعددة الأبعاد على تنفيذ ضربات عميقة داخل العمق الإسرائيلي. أدّى ذلك إلى إعادة ضبط إسرائيل لاستراتيجياتها الأمنية، بالانتقال من منطق الدفاع التقليدي إلى منطق الهجوم الاستباقي المكثف، حيث استهدفت بشكل مركز قادة حماس وحزب الله، بالإضافة إلى القواعد الإيرانية المنتشرة في دول الجوار، ضمن سلسلة من العمليات العسكرية الاستراتيجية. وخلال الأسبوع الماضي، استهدفت إسرائيل العمق الإيراني مباشرةً، موجهة ضربات موجعة للبنية العسكرية والاستخباراتية والأمنية للحرس الثوري والعديد من قياداته.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الضربات الإسرائيلية المكثفة سبقت التحرك الأمريكي المباشر بأسبوع كامل، حيث نفذت إسرائيل سلسلة هجمات منفردة استهدفت البنية التحتية العسكرية الإيرانية، ومراكز القيادة والسيطرة، والتموضعات الاستراتيجية داخل العمق الإيراني. حيث أحكمت هذه العمليات الإسرائيلية الخناق على البرنامج النووي الإيراني، موجهة ضربة قاصمة لقدرة إيران على استمرار مشروعها النووي العسكري، إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة تحطيم المنشآت النووية بشكل نهائي.

بعد اسبوع من الضربات الإسرائيلية الحاسمة، انضمت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر إلى العملية العسكرية في اليوم الأخير، حيث استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل معاً المنشآت النووية الثلاثة الإيرانية الرئيسية ضمن هجوم مشترك أُعلن عنه رسمياً من قبل الرئيس دونالد ترامب، الذي أكد بنجاح المهمة بالكامل وتحقيق أهدافها الاستراتيجية المرسومة. هذا التعاون المشترك يعكس ثقة أمريكية متزايدة في التفوق الإسرائيلي الاستخباراتي والتقني، وإدراكاً واضحاً للخطر الوجودي الذي يشكله استمرار البرنامج النووي الإيراني على أمن المنطقة برمتها.

من الناحية الاستراتيجية، شكّل هذا التوقيت والفاصل الزمني بين العمليات الإسرائيلية الفردية والضربة الأمريكية-الإسرائيلية المشتركة إشارة واضحة إلى طبيعة التنسيق المتقدم والدقيق بين تل أبيب وواشنطن، حيث كانت إسرائيل ترصد تطور الوضع وتعمل على تحجيم القدرات الإيرانية أولاً، ومن ثم جاءت الضربة الأمريكية ليكتمل المقطع الحاسم الذي أجهز على المنظومة النووية بشكل شبه نهائي، مع التأكيد على دقة التنفيذ وتقليل الأضرار الجانبية، بما يعكس أعلى مستويات الاحترافية العسكرية والاستخباراتية.

فقد شكلت الضربة الإسرائيلية-الأمريكية المشتركة نموذجاً جديداً للحسم الاستراتيجي، حيث برهنت على جدية إسرائيل في حماية أمنها القومي عبر تحييد الخطر من مصادره الأساسية، وفرض قواعد جديدة للعبة الإقليمية لا تقبل التفاوض على الخطوط الحمراء.

بالتالي، يظهر واضحاً أن إسرائيل، بتضافر قوتها التقنية والعسكرية مع الدعم الأمريكي المباشر، تعيد صياغة موازين القوى في الشرق الأوسط، وتفرض منظومة أمنية جديدة تعتمد على الردع النوعي والحسم الاستباقي، ما يُتيح لها إحكام قبضتها على محاولات زعزعة استقرار المنطقة، وقطع أذرع الفوضى العابرة للحدود، وبناء قاعدة استقرار مشروط ومستدام في بيئة إقليمية معقدة.

Related Posts