الحراج !

كتبها .. صالح جريبيع الزهراني

يقف العاقل حائراً أمام هذه القضية التي ركبها الجبان والشجاع والصاحي والمجنون والعاقل والأحمق والمستقيم والفاجر والعابد والزنديق والشريف والعاهر والقريب والبعيد .. وتاجر بها الجميع في أصقاع الدنيا كلها .. استأسد بها الفأر وانتفخ فيها الهر ليحاكي صولة الأسد .. وذبحت لأجلها العدالة وانتحر على محرابها الضمير ونما في حقولها الظلم واستطال حتى أصبح أشجاراً وغابات وظلاماً حالكاً لا يكاد يرى المبصر من خلاله.

هذه القضية التي أصبحت خنجراً مسموماً يطعن بها الأخ أخاه والابن أباه .. ويخوِّن كل منهما الآخر .. وتُبثُّ باسمها الفتنة والفرقة في المجتمعات .. هذه القضية التي سرقت باسمها أموال الشعوب وأرواحهم .. وتعطلت تنميتهم .. وتأجلت أحلامهم .. وتاهت بلدانهم .. وزوِّر تاريخهم .. هذه الشرارة التي شبَّت في ثياب الجميع .. حتى من أراد أن يتجنبها أو يبتعد عنها فإن لهيبها لا محالة طائله .. أصبحت شعاراً وكوفيةً ومسيرة ومظاهرة ومقاطعة وقصيدة وخطبة عصماء وابتهالاً ودعاء .. وحصَّالة وبنكاً وآلة صراف آلي لأصحابها وقادتها بل وحتى بعض المنتفعين من شعبها .. فقطرة الدم عندهم تساوي دولاراً مضموناً يتم دفعه مباشرة بعد أن يُراق .. وورقة للتفاوض لتحقيق مكاسب شخصية ومناصب أممية .. كما أصبحت أتوناً ومحرقة ومقصلة وحبل مشنقة للضعوف المساكين الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً .. يضحى بهم كما يضحى بالخراف في صبيحة العيد .. ليس من عدوهم اللدود فقط .. بل حتى من ربعهم وجماعتهم وأطيافهم وأحزابهم .. بعد أن تاهت كل بوصلات النضال وأغمدت جميع النصال .. وأصبحت الفرقة عادة .. وقتل المخالف عبادة .. باسم الله وباسم الدين وباسم القضية.

القضية التي أصبحت كعش الدبابير .. لا يقترب منها أحدٌ إلا ولسعته ولو كان صديقاً .. هذا الجرح المتقيح الذي يحتاج إلى تطهير ليشفى الجسد .. هذه البؤرة المسمومة التي تكاثرت فيها ثعابين المصالح.

القضية التي تسمت باسمها الجيوش والشوارع وبيع في سوقها السلاح والحشيش والكبتاجون والبشر .. وغسلت باسمها الأموال القذرة وهربت لأجلها المخدرات .. وتنازعت على تبنيها الأحزاب وأنشئت في كنفها جماعات الجهاد والمقاومة .. ثم انقلبت إلى الإرهاب والمساومة .. واختطفت شعبها وأسرته قبل أن تخطف عدوها وتدحره.

القضية التي خانها أصحابها .. فعادوا كل من يقف معهم .. وارتهنوا وانبطحوا لكل متاجر بها وبهم .. وصالحوا وصافحوا المحتل وصاهروه وعملوا في شرطته وجيشه وانصاعوا لأوامره ونواهيه وأصبحوا أعضاء في حكومته وبرلمانه ومخابراته وموساده ووسائل إعلامه .. بل وأصبحوا أدوات لقتل أخوانهم العرب في الأردن وسوريا ولبنان والعراق واليمن .. وآلة شتم لبقية العرب .. يتهمونهم بالخيانة وهم أكبر خونة .. ويتهمونهم بالتصهين وهم خدم في رحاب الصهيونية .. ويتهمونهم ببيع القضية وهم أكبر سماسرة للأرض .. لا يتناهون عن الفحش .. ولا يتورعون عن الكذب .. ولا يرحمون بعضهم بعضاً .. وكلما لاحت لهم انفراجة سدوها .. وكلما استقامت لهم طريق قطعوها .. بشقاقهم ونفاقهم وسوء نواياهم وقبح طويتهم.

إن كل وجعي وألمي على الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ الذين وقعوا بين مطرقة عدو فاجر وسندان حزبي تاجر يدعي المقاومة .. بين ثور هائج وفأر مختبئ .. بين مجرم يقتل الناس بدم بارد ويشتكي الضعف .. وأحمق ضعيف يصفع كل يوم ويدعي النصر .. وما يؤلم أكثر وأكثر أؤلئك الذين مازالوا يلوحون بأيديهم ويشجعون هؤلاء الحمقى ويصفقون لهم وينفخون في قربتهم المقطوعة ليستزيدوا من دماء الناس وجراحهم وألمهم ومعاناتهم ويرووا شغفهم بالانتصارات الزائفة ويعوضوا خورهم وضعفهم بالبطولات الوهمية .. وكأن الأمر بالنسبة لهم مجرد مباراة لكرة القدم .. أو كأنهم دلالو الحراج الذين يزايدون على سلعة رخيصة وهم يعرفون أنها رخيصة ليحصلوا على سعر أعلى.

إن العقلاء في كل هذا العالم .. وعلى رأسهم حكومة بلدي المملكة العربية السعودية يعملون جاهدين وعلى جميع المستويات لإيقاف هذا النزيف ووقف الحرب والهدم والقتل .. وإيجاد تسوية واقعية تأخذ في اعتبارها موازين القوى العالمية .. وتحقق مصالح أصحاب القضية .. وتحقق لشعوب ودول المنطقة الأمن والاستقرار والنماء .. ودلالو الحراج من المنسلخين من العقل والحكمة المنغمسين في العاطفة .. ومن المغرضين الحانقين الحاسدين الساعين إلى الخراب والدمار .. مازالوا يوقدون مشاعل الحرب ويرقصون حول النار كإنسان بدائي يظن أنه بدورانه وولولته ورفع صوته يستطيع أن يطرد القوى الخفية وأشرار الطبيعة.

يقول زهير بن أبي سلمى :

وما الحرب إلا ما عملتم وذقتمُ
وما هو عنها بالحديث المرجّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً
وتضرَ إذا ضريتموها فتضرمِ

فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئمِ

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطمِ

فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهمِ

صالح جريبيع الزهراني
الاثنين 13 نوفمبر 2023
جدة

Related Posts