فيصل مرجاني*
شكّل اعتراف المملكة المغربية المبكر باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن الثامن عشر، بوصفها أول دولة تعترف بهذا الاستقلال، نقطة تحوّل غير مألوفة في العلاقات الدولية خارج الدوائر الأوروبية التقليدية، وكانت له تداعيات استراتيجية عميقة لم تُقرأ آنذاك فقط بوصفه موقفًا سياديًا مستقلًا، بل كإعلان ضمني بانخراط المغرب في إعادة تشكيل النظام العالمي الناشئ.
لم يكن هذا الاعتراف، الذي صدر سنة 1777 عن السلطان سيدي محمد بن عبد الله، مجرّد إجراء رمزي أو خطوة عادية، بل كان فعلًا سياسيًا ذا حمولة سيادية ثقيلة، مبنيًا على رؤية استراتيجية أعادت تثبيت موقع المغرب كدولة ذات حضور تاريخي أصيل وفاعل في توازنات القوى الجديدة. كما عُدّ تحديًا مباشرًا ـ وغير معلن ـ للقوى الاستعمارية، وفي مقدّمتها المملكة المتحدة، التي كانت آنذاك لا تزال تحاول الحفاظ على نفوذها المتآكل في القارة الأمريكية.
أثار هذا الاعتراف غضبًا مكتومًا لدى لندن، التي لم تغفر للمغرب انحيازه المعنوي والسياسي لصالح ما اعتبرته “حركة انفصالية مسلحة” ضد التاج البريطاني. وإذا كان من المفهوم أن تفسّر بريطانيا تلك الخطوة كنوع من الاصطفاف الجيوسياسي إلى جانب خصمها، فإنّ ردّ فعلها لم يقتصر على الامتعاض الدبلوماسي، بل تطوّر إلى سلسلة من المضايقات التي استهدفت الأسطول المغربي في المياه الأطلسية والمتوسطية، خصوصًا في محيط جبل طارق، ما دفع السلطان المغربي إلى اتخاذ قرارات سيادية جريئة، أبرزها منع المؤونة عن الحامية البريطانية المرابطة هناك، في رسالة واضحة تؤكد استقلالية القرار المغربي ورفضه لأي ابتزاز مموَّه بلغة المصالح البحرية أو التوازنات الإقليمية.
لقد كانت بريطانيا، منذ القرن الثامن عشر، من أكثر الدول اطلاعًا على الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، بحكم حضورها البحري والاستخباراتي المتقدّم. وكانت تدرك تمامًا أن الصحراء المغربية، من طانطان إلى وادي الذهب، وصولًا إلى تخوم الصحراء الكبرى، ليست مجالًا ترابيًا متنازعًا عليه، بل امتدادًا سياديًا خاضعًا للسلطة المخزنية منذ قرون.
وفي هذا السياق، شكّل مشروع “سانت لويس دو ماروك”، الذي حاولت بريطانيا إنشاؤه في سواحل طرفاية خلال عهد السلطان مولاي عبد الرحمان، استفزازًا مباشرًا للسلطة المغربية، ما دفع السلطان إلى الاحتجاج عليه رسميًا، ثم مهاجمته عسكريًا حتى تم إنهاؤه بالكامل، في سياق سياسي سيادي بلغ ذروته بعد معركة إيسلي، وانتهى بتوقيع معاهدة طنجة سنة 1856.
أما في عهد السلطان مولاي الحسن الأول، فقد مثّل وجود تاجر بريطاني مثل دونالد ماكنزي في طرفاية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، دون احترام للسيادة المغربية، نقطة احتكاك دبلوماسي بارزة. إذ رفعت كل من فرنسا وإسبانيا احتجاجًا رسميًا ضد النشاط البريطاني، معتبرتَين ذلك خرقًا واضحًا للسيادة المغربية. فجاء الرد السلطاني صارمًا: إزالة المتجرة البريطانية، وإبلاغ السفير البريطاني رسميًا بعدم شرعيتها. وهو ما يعكس ليس فقط ممارسة سيادة فعلية على الأرض، بل فرضها دبلوماسيًا على القوى الإمبريالية ذاتها.
إن استحضار هذه الأحداث لا يُقصد به مجرد استعادة رومانسية لتاريخ ولى، بل هو مفتاح ضروري لفهم التردّد البريطاني التاريخي في الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء.
فكيف لبريطانيا، التي راقبت المغرب عن كثب، من طنجة إلى وادي نون وحتى نواذيبو وما أبعد من ذلك، أن تدّعي لاحقًا ـ بعد تفشي الرواية الانفصالية ـ أن السيادة المغربية لم تكن محسومة؟ لقد كانت هذه الإمبراطورية العظمى على اطلاع دقيق، عبر جهازها الاستخباراتي، وجواسيسها من التجار والمستشرقين، فضلًا عن رحلاتها البحرية، بأدق تفاصيل التنظيم المخزني، وخريطة الزوايا، وشبكات البيعة التي تربط قبائل الصحراء بالسلطان في فاس.
لم يكن هناك فصل جغرافي أو سياسي بين شمال المملكة وجنوبها، وهو ما يعكس أن بريطانيا نفسها كانت تتعامل مع المغرب كوحدة سيادية غير قابلة للتجزئة. وهو ما يعيدنا إلى سؤال جوهري: لماذا استغرقت لندن عقودًا لتتجاوز موقف الحياد الرمادي تجاه قضية تعتبرها الرباط قضية وجود لا قضية حدود؟
لا يمكن فصل هذا الحياد البريطاني عن حسابات الإمبراطوريات المتنافسة آنذاك، خصوصًا مع انخراط فرنسا وإسبانيا في استعمار شمال إفريقيا، وسعي بريطانيا إلى الحفاظ على توازن دقيق في المتوسط، وتفادي مواجهة مباشرة مع الجزائر خلال الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن هذا الحذر لم يكن بريئًا، بل شكّل في جوهره نوعًا من الإنكار الضمني للشرعية التاريخية للمغرب، رغم كل الوثائق التي كانت بحوزة الخارجية البريطانية، والأرشيفات التي تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تؤكد خضوع الصحراء للنظام المخزني، وتُظهر كيف كانت بريطانيا ذاتها تعقد الاتفاقيات مع المغرب بشأن الأسرى والقوافل المارة عبر هذه المناطق.
أما اليوم، وبعد التحولات التي عرفتها الساحة الدولية، خصوصًا بعد الاعتراف الأمريكي التاريخي بمغربية الصحراء سنة 2020، فإن لندن مطالبة بإعادة قراءة مواقفها في ضوء التراكمات التاريخية، لا في ظل التحفظات الآنية أو الإكراهات الإقليمية.
وقد جاءت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية البريطاني إلى الرباط، وما تخللها من تصريحات داعمة لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، كحل واقعي وعملي للنزاع المفتعل، لتُحدث تحوّلًا نوعيًا في الخطاب البريطاني: من الحياد الصامت إلى المساندة التدريجية. وهو ما يمكن اعتباره تصحيحًا متأخرًا لمسار من التردد، وإدراكًا بأن قضية الصحراء ليست نزاعًا جهويًا، بل قضية سيادة وطنية متجذّرة في التاريخ، مدعومة بشرعية قانونية وواقعية، ومؤطرة بمقاربة حكيمة من خلال مبادرة الحكم الذاتي، التي لم تُقدَّم كمجرد مقترح تفاوضي، بل كرؤية تاريخية عقلانية لاستيعاب الخصوصيات في إطار الوحدة.
إن مراجعة الموقف البريطاني اليوم لم تكن رهينة الحسابات الظرفية، بل جاءت استجابة لنداء الحقيقة التاريخية. فالمغرب، الذي كان أول من اعترف باستقلال أمريكا في ذروة الصراع الكولونيالي، هو ذاته المغرب الذي حافظ على وحدة ترابه ضد التمزق الاستعماري. وإذا كانت بريطانيا دولة تفخر بإرثها التاريخي ومؤسساتها العريقة، فإن اعترافها اليوم، وإن جاء متأخرًا، هو أقل ما يمكن أن تفعله انسجامًا مع هذا الإرث وتصحيحًا لموقفها من قضية تعرفها جيدًا عبر وثائقها وسفرائها وسفنها، فهي لم تكن يومًا موضع خلاف، بل قضية سيادة مغربية راسخة.