بقلم الدكتورة شيماء العماري
تابع العالم بقلق شديد و لساعات طويلة خبر فقدان المروحية التي كانت تقل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي،وبرفقة وزير خارجيته وسبعة أفراد آخرين من الوفد المرافق له، أثناء عودتهم من حفل تدشين سد مائي جديد، بحضور الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، يوم الرابع من مايو2024. وبعد جهود مضنية استمرت حوالي خمس عشر ساعة من التفتيش والبحث وفرق الإنقاذ، تم العثور على حطام المروحية وبقاياها المحترقة ورمادها المتناثر على قمم الجبال وسط الغابات النائية والحيوانات المفترسة. حيث هوت الطائرة بالرئيس الايراني ومن معه ليلقوا جميعا حتفهم في حادث مريب و مكان غريب وغموض رهيب…وطرحت هذه الوفاة المستغربة كل أنواع الفرضيات والتساؤلات المحيرة والمعقدة، بخصوص “السقوط المدوي ” لمروحية الرئيس الإيراني في هذا الوقت الحساس و هذه الظروف الغامضة..
وهنا تتجلى أمامنا نظرية كلاوزفيتز “ضباب الحرب” بكل معانيها، حيث يُستخدم هذا المصطلح العسكري للتعبير عن عدم اليقين والغموض الذي يسود خلال النزاعات، ويرمز إلى السرية والتمويه واهمية المعلومات الاستخباراتية في مباغتة العدو خلال الحروب . وبين “ضباب الحرب” و “ضباب الجو “، ازداد الوضع في المنطقة ضبابًا على ضبابه . وسقطت طائرة الرئيس الإيراني، وحدها ضمن الثلاث طائرات الذين اقلعوا سوياً، في نفس التوقيت ونفس الاتجاه ونفس الجو، ولكن، بركاب غير الرئيس ووزير الخارجية. وفي ظل تزايد الضغوط السياسية والتوترات الدبلوماسية،تتعدد نظريات المؤامرة وتتراشق أصابع الاتهام نحو الدول المعارضة لإيران. فمن جهة، استغربت تركيا – التي شاركت في عمليات البحث – عدم وجود أي إشارة من المروحية، ومن جهة أخرى نفت إدارة الرئيس جو بايدن أي دور خارجي في الحادث.
وفي هذا السياق، أشار خبراء الطيران إلى أن المروحية تعتبر جديدة في عمر الطائرات، وأن الخلل الذي حدث لا يمكن أن يكون إلا ناتجًا عن خلل مفاجئ ولا علاقة له بعمر الطائرة أو بالأحوال الجوية أو الضباب.. حيث لا يمكن لطيار- أياّ كانت الرحلة -أن يقلع بالركاب إن كانت الطائرة غير مهيأة أو إذا كان الجو غير مناسب للطيران، والدليل وصول طائراتين من نفس الرحلة في ظروف عادية وأجواء طبيعية ..
وهنا كان هذا التفسير حاضرًا لدى البعض ممن اعتبروا أن احتراق الطائرة والجثث بشكل كامل يدل على تعرضه الضربة صاروخية أو ما شابه ذلك.. بينما رجح البعض الآخر أن أذربيجان قد تكون متورطة، باعتبارها تمثل قاعدة لجهاز الموساد الإسرائيلي على الحدود الإيرانية..
فهل قد تستعيد أذربيجان تورطها في عمليات اغتيال قادة إيرانيين مجددًا، على غرار حادثة اغتيال فخري زاده ؟ وهل يمكن ان وجود العديد من الشخصيات المهمة على متن طائرة واحدة؛ وفي مدينة حدودية قريبة من منطقة نفوذ عملياتية لجهاز الموساد، أن يجعل اصطيادهم بضربة واحدة أمرًا قد يثير غطرسة الحكومة المتطرفة في تل أبيب؟
وإذا افترضنا أن الرئيس الإيراني وكبار المسؤولين قد اغتيلوا في عملية استهداف إسرائيلية، هل يعقل أن تختار طهران السكوت وعدم الإعلان عن اتهام تل أبيب؟ وهل يعني ذلك أن الحكومة الإيرانية لازالت تفضل عدم الدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل وأنها ستواصل انتهاج سياسة حروبها بالوكالة في البلدان العربية مهما كان الثمن؟
وكيف للدولة التي تحتل خمس عواصم عربية ان لا تملك اجهزة حديثة للبحث عن طائرة الرئيس التي سقطت في الأدغال، ولولا مُسيًرةٍ تركية لربما ذهب الرئيس الإيراني طعاماً للوحوش؟ كيف يمكن لإيران التي تصدر جميع أنواع السلاح والذخائر والصواريخ لأذرعها في كل المنطقة، وتواصل تطوير مشروعها النووي، ألا تملك القدرة على صيانة طائرة الرئيس وتجد صعوبة في العثور على قطع الغيار؟
ام هل يمكن أن يكون تصاعد نشاط إيران في تخصيب اليورانيوم بنسبة ستين بالمئة، وطرد المفتشين التابعين لوكالة الطاقة الذرية في فيينا، هو الدافع الرئيسي وراء اغتيال الرئيس الإيراني؟ وهل كانت هذه الخطوات الجريئة لايران هي ما استفزت الدول الأخرى ودفعتها إلى التورط في عمليات اغتيال؟ هل يمكن أن يكون الرصد الذي قام به موقع فليت رادار 24 لطائرة C-17 الأمريكية في أذربيجان، ومغادرتها مع اختفاء طائرة رئيسي، متجهة إلى إسرائيل، مرتبطًا بمحاولة للتشويش على الطائرة الرئاسية والتسبب في سقوطها؟
وفي النهاية، يبقى الشيء المؤكد، هو أن أهمية الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” لا تكمن في كونه الرئيس، بل تكمن أهميته في أنه كان من الأسماء القليلة المرشحة لخلافة المرشد الأعلى علي خامنئي، خلال أزمة الخلافة التي شهدتها إيران مؤخرًا،بالإضافة إلى اسم نجل المرشد مجتبى.
لذا ، فمن الضروري أن لا نسمح لكثافة هذا” الضباب” الذي أحاط بالمنطقة، بأن يغشي عيوننا عن ما يحصل منصمت “قاتل” و مشاهد “مشوشة ” تنبث لنا من داخل التراب الإيراني، فلا نستطيع أن نرى بوضوح، صراعاتها الداخلية ذات الوزن الثقيل..
فكل الاحتمالات واردة طبعاً…ولكن ما حصل يجعل مجتبى خامنئي؛ الذي بقي في الظل لفترة طويلة، حتماً المرشح الأبرز اليوم لارتداء العباءة السوداء والإمساك بمجريات الأمور في الدولة بعد رحيل المرشح الأوفر حظا لهذا المقام الرفيع في إيران، وتصبح الساحة خالية له ، ويكون هو المستفيد الرئيسي والأول من وفاة إبراهيم رئيسي..
وختاماً، أعود إلى المفكّر البروسي الكبير؛ كارل فونكلوزفيتز؛ “حيث قال:”إن الضباب يُغلّف الحرب من كلّجوانبها (Fog of War)… فخوض الحرب كمن يحاول الركض في الوحل، فقط من أجل خفض كثافة الضباب..”