بقلم: ماريا معلوف
يشهد لبنان مرحلة مفصلية في تاريخه السياسي والأمني، وسط تصعيد عسكري متسارع وضغوط دولية تتزايد حدتها يومًا بعد آخر. فمنذ اندلاع الحرب في غزة، تحوّلت التهديدات الأميركية والإسرائيلية من مجرد رسائل ردع إلى خطوات عملية قد تتبلور في أي لحظة. أمام هذا المشهد، يجد لبنان نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: الأول، الالتزام بالمطالب الدولية وتنفيذ القرار 1701 بكل ما يحمله من تبعات، والثاني، مواجهة تصعيد عسكري قد يخلّف تداعيات كارثية على سيادة الدولة واستقرارها الداخلي.
وفقًا لمصادر دبلوماسية أميركية، أصبحت واشنطن أكثر حسمًا في موقفها من الملف اللبناني، خصوصًا فيما يتعلق بدور حزب الله والنفوذ الإيراني المتنامي في البلاد. فالإدارة الأميركية ترى أن حزب الله يشكل حجر الزاوية في معادلة القوة الإقليمية لإيران، مما جعل لبنان جزءًا من هذه المعادلة. لذلك، لا يقتصر الضغط الأميركي على تفكيك ترسانة الحزب فحسب، بل يمتد ليشمل إعادة هيكلة المؤسسات اللبنانية الرسمية لضمان استقلاليتها عن أي تأثير خارجي، وحتى داخلي، من قبل حزب الله.
وفي هذا السياق، تشير مصادر متابعة في الولايات المتحدة إلى أن المهلة التي منحتها واشنطن للحكومة اللبنانية ليست مجرد تحذير دبلوماسي، بل هي إشارة واضحة إلى أن صبر الإدارة الأميركية بدأ ينفد. علمًا أن المطالب الأميركية تشمل:
• تفكيك ترسانة “حزب الله” وفقًا لمندرجات القرار الدولي 1701.
• سحب قادة الحرس الثوري الإيراني من لبنان.
• مصادرة وتسليم أسلحة الفصائل الفلسطينية المسلحة في المخيمات، لا سيما في مخيم عين الحلوة، وتسليم المطلوبين، خصوصًا المتشددين الإسلاميين، إلى السلطات اللبنانية.
ومن يقرأ هذه الشروط بعقل بارد وهادئ، يدرك أنها تؤكد أن الأمن الداخلي اللبناني لم يعد ملفًا داخليًا بحتًا، بل بات جزءًا من ترتيبات إقليمية أوسع.
إسرائيل والواقع الجديد
في المقابل، تستعد إسرائيل لفرض واقع جديد على الأرض في حال فشلت الحكومة اللبنانية في تحقيق التقدم المطلوب. فقد حصلت تل أبيب على ضوء أخضر أميركي لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة إذا استمر حزب الله في الاحتفاظ بسلاحه، وهو أمر لم يكن مطروحًا بهذه الجدية في السابق.
لذلك، فإن التحذيرات الأميركية ليست مجرد تصريحات عابرة، بل تترافق مع تهديدات بوقف المساعدات العسكرية والاقتصادية، وحتى عرقلة مشاريع إعادة الإعمار في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية — وهي مناطق تُعتبر معاقل أساسية لحزب الله.
بين التصعيد والتنازل: مأزق الحكومة اللبنانية
إلا أن هذا السيناريو يطرح تساؤلات خطيرة: هل تتحمّل الحكومة اللبنانية تداعيات صدام عسكري جديد؟ وهل يملك لبنان القدرة على حماية جبهته الداخلية، خاصة في ظل الانهيار الاقتصادي الذي ينهش بنيته؟
ويرى مراقبون أنه أمام هذه الضغوط، تبدو الحكومة اللبنانية في موقف لا تُحسد عليه. فمن جهة، قد يُفهم أي رضوخ كامل للمطالب الأميركية داخليًا كاستسلام للإملاءات الخارجية، مما قد يقوّض التوازنات الدقيقة بين القوى السياسية اللبنانية. ومن جهة أخرى، فإن استمرار الوضع الراهن يحمل في طياته سيناريو كارثيًا يهدد ليس فقط الأمن الوطني، بل أيضًا ما تبقى من هيكل الدولة المتداعي.
لذلك، فإن إعادة هيكلة المؤسسات، خاصة القطاعين العسكري والمالي، قد تكون ضرورة لا مفرّ منها لاستعادة الحد الأدنى من الاستقلالية. لكنه أيضًا مسار معقد يتطلب إرادة سياسية غير متوفرة حاليًا، في ظل الانقسام الداخلي وتباين المصالح بين القوى المحلية والإقليمية.
لبنان أمام مفترق طرق
وعليه، فإن لبنان يقف اليوم أمام مفترق طرق مصيري، حيث إن كل تأخير في اتخاذ القرارات المصيرية يُسرّع من احتمالية انفجار الأوضاع داخليًا وخارجيًا. لكن المفارقة تكمن في أن الحلول المفروضة من الخارج، رغم واقعيتها السياسية، قد تشعل الساحة الداخلية المنهكة أصلًا.
ويبقى السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه: هل يمكن للبنان أن يوازن بين الضغوط الدولية والحفاظ على سيادته؟ أم أن سيناريو المواجهة المفتوحة أصبح حتميًا؟
إذاً، المرحلة المقبلة قد تكون الأصعب في تاريخ لبنان الحديث، وتحديد الخيارات سيتطلب شجاعة سياسية تتجاوز المصالح الفئوية—شجاعة يبدو أن لبنان ما زال يفتقدها.