بقلم : خليل القاضي
في خضم أزمات متراكمة، وانقسامات داخلية، وضغوط إقليمية ودولية، يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق حاسم. التصريحات الأخيرة للمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، تكشف بوضوح عن خارطة طريق دولية تُلزم لبنان بالتوجه نحو مسار جديد — مسار السلام — كشرط لاستعادة استقراره السياسي والاقتصادي. ورغم ما تحمله هذه الخارطة من تعقيدات وتحديات، إلا أن الخيار البديل، المتمثل في استمرار النزاع والمواجهة، لن يؤدي سوى إلى مزيد من الدمار والإنهاك. لذلك، يبدو السلام ليس مجرد خيار، بل ضرورة وجودية للبنان.
يدعو الموقف الأميركي إلى مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل، وتكليف شخصية مدنية لإدارة هذا الملف. على الرغم من أن الفكرة قد تثير جدلًا واسعًا في الداخل اللبناني، إلا أن هذا النوع من المبادرات قد يكون مفتاحًا للخروج من دائرة الصراع. فبعد عقود من المواجهات، أثبت التاريخ أن الحرب لم تجلب للبنان سوى الخراب، بينما يوفر السلام فرصة لإعادة الإعمار، وإنعاش الاقتصاد، وعودة الحياة الطبيعية إلى المناطق المدمرة جنوبًا وفي البقاع والضاحية الجنوبية.
إن المطلب الدولي بعدم السماح بعودة الأهالي إلى بلداتهم الحدودية قبل إنجاز التسوية هو واقع قاسٍ، لكنه يطرح أيضًا تساؤلًا مهمًا: هل نريد أن نعيد البناء وسط الخوف والدمار، أم في ظل استقرار وسلام دائمين؟
يدرك اللبنانيون أن السلام ليس تنازلًا عن الحقوق، بل هو فرصة لاستعادتها بالطرق السياسية والدبلوماسية. ووفقًا لما طرحه ويتكوف، فإن انسحاب إسرائيل من النقاط الحدودية المحتلة، وإدارة ملف مزارع شبعا من قِبل الأمم المتحدة، وإعادة ترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل وسوريا وقبرص، كلها خطوات قد تعيد للبنان جزءًا من حقوقه التي لم يستطع انتزاعها بالقوة.
لبنان، الذي يدفع ثمن تحوله إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، يحتاج اليوم إلى استعادة قراره الوطني المستقل. فالدخول في مفاوضات سلام لا يعني التخلي عن السيادة، بل هو محاولة لاستعادة السيادة من خلال إنهاء الاحتلال ووقف التدخلات الخارجية التي مزقت نسيجه الداخلي.
من أبرز ما ورد في التصريحات هو ربط إعادة إعمار الجنوب والمناطق المتضررة بإنجاز التسوية. هذا الشرط قد يبدو صعبًا، لكنه أيضًا يضع الكرة في ملعب اللبنانيين: إما السلام وإعادة الإعمار، أو الاستمرار في المعاناة الاقتصادية والانهيار.
دول الخليج، التي لطالما شكلت رافعة اقتصادية للبنان، لن تعود لدعم بيروت ما لم تتبلور العملية السياسية الجديدة. وهذا ليس تهديدًا بقدر ما هو واقع يجب مواجهته بعقلانية. لبنان بحاجة ماسة إلى هذا الدعم لإعادة بناء مؤسساته، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. السلام ليس فقط ضمانة سياسية، بل أيضًا فرصة حقيقية للنهوض الاقتصادي.
أحد أبرز نقاط الطرح الأميركي يتعلق بنزع سلاح حزب الله والفصائل المسلحة، بما في ذلك الأسلحة داخل المخيمات الفلسطينية. ورغم أن هذا المطلب قد يثير انقسامًا داخليًا، إلا أنه يحمل وجهة نظر تستحق التفكير:
•هل يمكن للبنان أن يستعيد قوته كدولة ما دامت هناك قوى موازية للجيش الرسمي؟
•هل يمكن الحديث عن استقرار اقتصادي وجذب للاستثمارات في ظل وجود السلاح خارج إطار الدولة؟
ربما يكون الطريق صعبًا، لكن بناء دولة قوية بجيش موحد هو الحل الوحيد لضمان سيادة لبنان ومنع تكرار حروب مدمرة كالتي عاشها في الماضي.
لبنان، الذي أنهكته الحروب والصراعات، يحتاج اليوم إلى شجاعة من نوع جديد — شجاعة السلام. لقد أثبتت المواجهات أن القوة العسكرية وحدها لا تصنع الاستقرار، وأن الأوطان تُبنى على التسويات التي تضمن الحقوق وتحفظ كرامة الشعوب.
قد يرى البعض أن الطرح الأميركي منحاز، وقد يكون كذلك. لكن المسألة الجوهرية هنا هي: هل يمكن للبنان أن يتحمل مزيدًا من النزف والدمار؟
الوقت حان ليتخذ اللبنانيون موقفًا جريئًا: رفض أن يكونوا ساحة معركة، واختيار أن يكونوا ساحة سلام وازدهار.
هل يملك لبنان اليوم ترف الانتظار؟ أم أن الوقت قد حان ليكتب مستقبله بيديه، لا بيد غيره؟