فيصل مرجاني
في نونبر من عام 2010، وبينما كان المغاربة قاطبة يحتفلون بالذكرى الخامسة والثلاثين للمسيرة الخضراء، كانت البلاد، من شمالها إلى جنوبها، تعيش زخم الاحتفالات بهذه الذكرى الوطنية الخالدة. وكان قدَرُنا أن نكون في قلب لحظة مفصلية من التاريخ، نعيشها لا كمجرد مراقبين، بل كفاعلين وشهود على ما لم يُكتب في حينه. كنا حينها في مدينة العيون، نشارك ضمن فعالية مدنية تحت شعار “إعادة إحياء ملحمة المسيرة الخضراء”، وهو عنوان لم يكن مجرد شعار، بل إعادة بثّ لروح جماعية صادقة، جمعت 365 مشاركًا من مختلف جهات المملكة وبعض أفراد الجالية المغربية بالخارج، في إحالة رمزية مباشرة على عدد 365 ألف متطوع اجتازوا الصحراء سنة 1975 لتحريرها من قبضة الاستعمار الإسباني.
اخترنا أن نعيد تشكيل تلك الذاكرة الحية، وقد أقمنا في مخيم فم الواد، وهي منطقة شبه معزولة عن مركز مدينة العيون. وفي يوم 6 نونبر، توجهنا نحو ساحة المشور لإحياء الاحتفالات، وتابعنا مساءً الخطاب الملكي السامي من قاعة الولاية، وسط شعور جارف بالفخر والامتنان والانتماء الوطني.
غير أن ما لم نكن نعلمه حينها، هو أن سُحب الخطر كانت تتجمع بصمت في الأفق، وأن تلك اللحظات التي عشناها في الانسجام والفرح، كانت مهددة من قبل قوى الظلام التي كانت تخطط للانقضاض على هذا المعنى الوطني. ففي وقت متأخر من الليل، صدرت أوامر صارمة، دون أي توضيحات: علينا مغادرة المدينة فورًا، وترك المخيم حالًا. كانت نبرة التعليمات حاسمة، لا تحتمل النقاش، فجاءت الاستجابة طوعية، ولكنها كانت محمّلة بأسئلة معلّقة لم يُجَب عنها أحد.
في طريق العودة، وبين تزنيت وأكادير، كنا نشهد مشهدًا استثنائيًا: شاحنات للقوات المسلحة الملكية، وحدات من الدرك الملكي، تتحرك بسرعة في اتجاه الجنوب. لم يكن الأمر عاديًا؛ فبعضنا يراها لأول مرة بهذه الكثافة التعبوية. كان الصمت يخيم على الحافلات، والقلق يتصاعد مع كل كيلومتر نبتعده. كان هناك شعور مبهم بأن أمرًا خطيرًا يُطبخ في الخفاء.
وعند وصولنا إلى أكادير، لم يكن هناك أي خبر أو معلومة عمّا يحدث. واصلنا التظاهرة بطريقة رمزية بديلة عمّا كان مبرمجًا. وعند وصولنا إلى مراكش، بدأت الهواتف تشتعل بالاتصالات: “هل أنتم بخير؟ هل لا زلتم في العيون؟”. وكان الجواب بالنسبة لنا صادمًا كما هو مطمئن: لقد غادرنا. ثم أتى التفسير: مدينة العيون تتعرض لهجوم عنيف، هناك أحداث شغب، تخريب، مواجهات دموية، واعتداءات على قوات الأمن والممتلكات.
هكذا تبيّن أن المخطط لم يكن صدفة، بل كان عملية ممنهجة، تهدف إلى تفجير الوضع من الداخل في لحظة رمزية بالغة الحساسية. المنفذون كانوا من أتباع جبهة البوليساريو الإرهابية، وقد أرادوا استغلال المناسبة الوطنية لزرع الرعب وإشعال الفوضى في وجه الدولة. ما أنقذنا نحن، المشاركين في تظاهرة مدنية سلمية، هو يقظة السلطات المغربية، التي التقطت المؤشرات قبل أن تنفجر، واتخذت القرار الحاسم بإخلائنا من منطقة فم الواد، التي كانت، بحكم بعدها عن مركز المدينة، هدفًا سهلًا ضمن المخطط الإجرامي الإرهابي. لقد غادرنا في اللحظة الأخيرة، وكأن يدًا غير مرئية انتشلتنا من المجهول.
حين وقعت أحداث 7 أكتوبر 2023 في إسرائيل، وهاجمت حركة حماس جنوب البلاد، عادت بي الذاكرة إلى تلك الليلة في العيون. ثمة تشابه مرعب، خصوصًا مع ما جرى في مهرجان نوفا. هناك أيضًا، كان تجمع شبابي، مدني، حر، يحتفل بالحياة، بالموسيقى، بالفرح، تمامًا كما كنا نحتفل نحن بالمواطنة والوحدة والرمز الوطني. وهناك أيضًا، تنظيم عقائدي متطرف، ينقضّ على الأبرياء بدم بارد، وبأيديولوجيا لا تعرف سوى الموت.
لكن الفرق الجوهري أن حماس نجحت في تنفيذ جريمتها، وسقط المئات بين قتيل ومخطوف، بينما في حالتنا، كانت يقظة الدولة، واستخباراتها، وأجهزتها الأمنية والعسكرية، هي من حالت دون كارثة كانت ستكون شبيهة، وربما أسوأ.
المقارنة ليست عبثية. العقيدة التي تحرك حماس، هي نفسها التي تحرك البوليساريو. ليست مجرد عقيدة انفصالية، بل عقيدة تخريبية تقوم على العنف، على نفي الآخر، وعلى توظيف الشعارات الأيديولوجية والقومية من أجل أجندات جيوسياسية غير مشروعة. والأخطر من ذلك، أن كلا التنظيمين يندرجان ضمن هندسة إقليمية تقودها إيران وتُنفذ بدعم جزائري، سواء عبر التدريب أو التمويل أو التوجيه العملياتي.
وثائق استخباراتية مغربية ودولية موثوقة أثبتت أن حماس والبوليساريو تلقيا تدريبات عسكرية في مواقع مشتركة بسوريا والعراق، وعلى الحدود التركية-السورية، بإشراف مباشر من الحرس الثوري الإيراني، وبمساعدة لوجستية جزائرية، تُدار أحيانًا من داخل بعثة إيران بالجزائر. الهدف لم يكن أبدًا دعم “المقاومة”، بل توجيه ضربات استباقية للأمن والاستقرار في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ضمن خريطة تخريبية عابرة للحدود.
ما حدث في 8 نونبر 2010 في العيون لم يكن مجرد شغب محلي، كما يحاول البعض اختزاله، بل كان جزءًا من هذه الخطة الخفية التي تُنسَج في الظل. غير أن المغرب، بخبرته السيادية، وحنكته الاستخباراتية، وبنيته الأمنية والعسكرية المحكمة، استطاع إفشال المخطط قبل أن يُولد، وأنقذ أرواحًا، وأعاد فرض منطق الدولة والشرعية.
أما ما حدث في إسرائيل، فهو شاهد حي على ما يمكن أن تفعله التنظيمات العقائدية المسلحة إذا غابت اليقظة، ولم يتم تفكيك بنيتها قبل تحركها.
لقد علّمتنا تلك الليلة أن الاستقرار لا يُهدى، بل يُحمى. وأن الانتماء لا يكفي وحده، بل يجب أن يُسند بعقيدة أمنية متماسكة، قادرة على استباق الخطر قبل أن يضرب. لقد كنا على بُعد ساعات من مصير شبيه بمصير ضحايا نوفا، لكننا كنا في وطن لا ينام، في حضن دولة لا تساوم على أمن مواطنيها.