فيصل مرجاني
في سياق التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي والدولي، تبلور الموقف الأمريكي من قضية الصحراء المغربية كإعلان سيادي ذي حمولة استراتيجية متعددة الأبعاد، يتجاوز منطق الاعتراف الدبلوماسي التقليدي إلى تثبيت واقع سياسي وأمني غير قابل للمساومة. وقد جاء تأكيد السيد مسعد بولس، المستشار الخاص للرئيس الأمريكي المكلف بالشؤون الإفريقية، ليحسم هذا الموقف بصيغة صارمة لا تحتمل التأويل، مؤكداً أن سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية أمر محسوم وغير قابل للنقاش، وأن إدارة الرئيس دونالد ترامب، في نسختها السابقة والحالية، تضع هذا الاعتراف في صلب رؤيتها لإعادة هيكلة الأمن الإقليمي الممتد من شمال إفريقيا إلى الشرق الأوسط.
هذا التصريح ليس مجرد بيان سياسي، بل هو تتويج لمقاربة أمريكية جديدة تقوم على الربط العضوي بين فض النزاعات الترابية ومكافحة بؤر التطرف العابر للحدود، حيث يُعاد تموضع الولايات المتحدة في إفريقيا انطلاقاً من بوابة المغرب باعتباره فاعلاً مركزياً في تحقيق التوازن الإقليمي وردع المشاريع التخريبية التي تتغذى على استمرار النزاعات المفتعلة. من هنا، فإن تأكيد هذا الموقف لا يحمل فقط بعداً دبلوماسياً، بل يشكل في جوهره جزءاً من منظومة ردع أوسع تستهدف تفكيك البنى المتطرفة وتحجيم امتداداتها المموّلة من محاور إقليمية معلومة، تعمل على زعزعة الاستقرار باسم قضايا مفبركة.
في خضم هذه الدينامية، لم يعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه مجرد قرار إداري أو دبلوماسي. فبحسب ما صرح به السيد بولس، فإن هذا الاعتراف نُقل رسمياً إلى كافة الأذرع السياسية والدبلوماسية للأمم المتحدة، وجرى تحصينه بقرار مؤسسي تعتبره واشنطن منتهى القول في هذا الملف، مانعة أي تراجع عنه أو إعادة فتحه ضمن أجندات الأمم المتحدة. نحن إذن أمام موقف لا يخضع للمناورة ولا للضغوط، بل يعكس انخراط الولايات المتحدة في مقاربة حاسمة لتفكيك بؤر النزاع المتقادمة التي تشكل بيئة خصبة للجماعات الراديكالية العابرة للحدود.
تسجل مقاربة السيد بولس اختراقاً مفاهيمياً غير مسبوق في الربط العضوي بين النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية وبين العوائق البنيوية التي تقف أمام إحلال السلام في الشرق الأوسط. فالرسالة واضحة: لا استقرار في المشرق دون تجفيف منابع التوتر في المغرب الكبير والساحل، حيث تحوّلت بعض هذه النزاعات إلى حواضن استراتيجية للجماعات المتطرفة. إن مقاربة بولس تسير على خطى المدرسة الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية، التي ترى في “الأمن المركب” ضرورة لحماية النظام العالمي، أي أن أمن إسرائيل، وأمن الخليج، وأمن شمال إفريقيا، متلازمة لا يمكن تفكيكها. ومن هذا المنطلق، فإن أي كيانات انفصالية كالبوليساريو لا تُقرأ فقط من زاوية سياسية، بل تُفكك كعوامل اختراق أمني وتهديد بنيوي للسلام الإقليمي والدولي.
عندما يُصرّح بولس بأن على الدول أن تتحمل مسؤولياتها في تمويل الجماعات المتطرفة، فهو لا يتحدث بلغة دبلوماسية، بل يوجه تحذيراً صريحاً لما سماه بـ”تحالفات الزحزحة”، وهي تلك الشبكات السياسية والمالية التي توظف الإسلام السياسي الراديكالي لخدمة أجندات موازية: تقويض الاستقرار، وتفكيك الكيانات السيادية، واستنزاف الموارد عبر الحروب. في هذا السياق، تُدرج الإدارة الأمريكية الجماعات المتطرفة من قبيل حزب الله، حماس، والحوثيين، في نفس خريطة الخطر التي تنضوي فيها البوليساريو، وبوكو حرام، وغيرهما من التنظيمات التي تنشط تحت مظلة تنسيق إيراني-قطري-جزائري بالغ الخطورة. نحن أمام شبكة ممتدة تتجاوز الانتماء الجغرافي، تجمعها وحدة الهدف: خلق مناطق فراغ سياسي وأمني تستخدم كبؤر تصدير للعنف والفوضى.
إن ما يحدث اليوم هو صراع مفتوح على “المنطقة الرمادية” في إفريقيا، حيث تتقاطع المصالح الاستراتيجية الدولية مع مشاريع النفوذ التخريبي. والإدارة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب كما يبدو من تحركات مستشاره بولس تتبنى مقاربة هجومية ناعمة تعتمد أدوات القوة الذكية: تعزيز التحالفات الاستراتيجية مع الدول المستقرة كالمغرب، إعادة هندسة التموقع العسكري والأمني، وتصفية الملفات التي تشكل نقاط ضعف جيوسياسي، وعلى رأسها ملف الصحراء. إنها مقاربة لا تبحث عن الحلول المؤجلة، بل عن الإغلاق الاستراتيجي للنزاعات، عبر اعتماد مبادرة الحكم الذاتي كحل نهائي، واقعي وعملي، يطوي صفحة الابتزاز الدبلوماسي والانفصالي، ويفتح أفق التعاون الإقليمي في ملفات التنمية ومكافحة الإرهاب وتثبيت الأمن الحدودي.
ليس من المبالغة القول إن تأكيد السيد بولس على حتمية الحل في الصحراء المغربية ليس مجرد موقف أمريكي، بل هو إعلان عن نهاية مرحلة وبداية أخرى. مرحلة تُغلق فيها الثغرات التي استغلتها جماعات العنف وممولوها لعقود. مرحلة يكون فيها الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية ليس فقط حلاً عادلاً، بل ضرورة أمنية إقليمية. فمنذ تأكيد الرئيس ترامب على هذا التوجه خلال إدارته الأولى، ودعمه المطلق لاستراتيجية الردع الشامل في الشرق الأوسط، أصبح المغرب حليفاً محورياً في هندسة استقرار المنطقة، ليس فقط سياسياً، بل استخباراتياً وأمنياً ولوجيستياً. واليوم، تتعزز هذه الشراكة من جديد، لتتحول من موقف سياسي إلى قاعدة صلبة لإعادة بناء التوازن الإقليمي في مواجهة موجات الفوضى الخلاقة الجديدة التي يُعاد تسويقها عبر قنوات إعلامية وسياسية ممولة من محاور الخراب.