بقلم: جلال اراني
في تطوّر لم يكن يتوقعه سوى قلة قبل أيام، فرّ الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق، بحسب ما أفادت مصادر بارتقائه طائرة خاصة نحو وجهة غير معلنة. وقد اندفعت قوات معارضة من إدلب ومجموعات حليفة أخرى إلى قلب العاصمة، التي كانت تعد حصناً منيعاً، بسرعة مذهلة. وبحلول الفجر، كان الموالون للنظام قد تلاشى حضورهم، وتحولت حواجز الجيش إلى نقاط مهجورة، في حين ساد صمت مهيب في أروقة القصر الرئاسي الفخم.
للمرة الأولى منذ عقود، وجدت سوريا نفسها فجأة بلا الحاكم الاستبدادي الذي تشبّث بسلطته لعقود مدعوماً برعاة أجانب نافذين. إنّ تداعيات هذا التحوّل تتجاوز حدود سوريا. فالحلفاء والخصوم على حدّ سواء يسارعون الآن إلى إعادة تقييم مواقفهم في شرق أوسط ما بعد الأسد. الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وروسيا ودول الخليج تعيد النظر في حساباتها الاستراتيجية وخطابها الدبلوماسي في مواجهة هذه المعطيات الجديدة.
إلّا أنّ دولة واحدة تراقب هذه التطورات بقلق أشدّ: الجمهورية الإسلامية في إيران. فعلى مدى أكثر من أربعين عاماً، اعتبر المرشد الأعلى علي خامنئي والمؤسسة الدينية الحاكمة في طهران عائلة الأسد عنصراً لا غنى عنه في ما أطلقوا عليه “محور المقاومة”. لقد ضخّت إيران موارد مالية وعسكرية هائلة في سوريا، من أموال وأسلحة ومستشارين شبه عسكريين، لدعم النظام في دمشق. واليوم، مع سقوط العاصمة وفرار الأسد المخزي، تجد طهران نفسها أمام تساؤلات طالما كانت تطفو تحت سطح السردية الرسمية التي رعتها بعناية.
ائتلاف هشّ ينهار
مظاهر الهلع الإيرانية واضحة. يسأل المسؤولون في طهران أنفسهم: كيف يمكنهم الاستمرار في مساندة زعيم لم يعد يسيطر على سوريا، بل ربما لا يعرفون حتى مكانه؟ لعقود، صوّرت طهران نفسها سداً إقليمياً أمام النفوذ الغربي والإسرائيلي، ودعمت في هذا الإطار حزب الله في لبنان وميليشيات في العراق وقوى وكيلة أخرى في أماكن مختلفة. وكانت سوريا حجر الزاوية في هذا البناء الاستراتيجي. ومع رحيل الأسد، يتهاوى أساس “محور المقاومة” الإيراني.
في الأسابيع الأخيرة، علّقت طهران آمالاً كبيرة على محادثات جارية مع روسيا وتركيا لرسم مستقبل سوريا. وقد ارتكزت تلك المفاوضات، وإن بشق الأنفس، على افتراض بقاء الأسد. أما الآن، بعد انهيار النظام القديم، فعلى إيران أن تعيد رسم ملامح موقفها. وفي تصريح أدلى به وزير الخارجية الإيراني قبل أيام، رفض ما يحدث واصفاً إياه بمؤامرة خارجية تقف وراءها الولايات المتحدة وإسرائيل. غير أنّ مثل هذه الاتهامات تبدو جوفاء مع انتعاش الحياة في شوارع دمشق المُحرَّرة، وتقارير عن تشتّت القوات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني التي أُرسلت على عجل قبل سقوط المدينة.
إنّ هذا المشهد الفوضوي يكشف عن إخفاقات استراتيجية أعمق لدى إيران. فقد استنزف انخراطها المكثّف في الحرب السورية—تمويل الميليشيات وتوريد الأسلحة وإدارة العمليات عبر الحرس الثوري—مواردها وأضرّ بمصداقيتها حتى بين دوائرها الضيقة. وفي الوقت نفسه، أعاد سوء الإدارة الاقتصادية، والتضخّم الجامح، والفساد المستشري تشكيل الاقتصاد الإيراني على نحو كارثي، ما غذّى الاستياء الشعبي. وما كان يُعدّ مغامرة جريئة في التدخلات الخارجية بات يبدو اليوم حساباً خاطئاً باهظ الثمن.
الخوف والقمع في الداخل
داخل إيران، يتفاقم السخط. فبينما يتفاخر النظام بانتصاراته الخارجية ونفوذه، يواجه المواطنون أوضاعاً معيشية متدهورة. وكالعادة، جاء ردّ فعل الحكومة موغلاً في القسوة: اعتقالات جماعية، عقوبات علنية، إعدامات، اختفاءات قسرية، وقمع لا يرحم لأي معارضة. وقد اندلعت موجات من الاحتجاجات مراراً—بدءاً من الاضطرابات الاقتصادية بين عامي 2017 و2019 إلى التظاهرات التي عمّت البلاد عام 2022 إثر وفاة مهسا أميني. وأضحى صوت الإيرانيين أكثر وضوحاً من أي وقت مضى: إنهم يرفضون أولويات النظام، ويستنكرون تبديد ثروات البلاد على حروب خارجية، ويرون في تغيير النظام حلاً وحيداً لتحسين أوضاعهم.
رغم ذلك، يتمسك القادة في طهران بالأساليب القديمة. داخلياً، يخمدون المعارضة بقبضة من حديد؛ خارجياً، يمولون ميليشيات وينشرون الإرهاب، ويبررون السعي إلى قدرات نووية باعتبارها قوة ردع كبرى. لكن هذه الأدوات التي طالما بثت الخوف وشغلت الرأي العام بدأت تفقد فعاليتها. فالشباب الإيرانيون، المتواصلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمستوحون من معارضة منظّمة، لم يعودوا مستعدين للصمت. أما النساء، فقد برزن كقوى فاعلة، يتحدين ليس فقط الزعماء السياسيين، بل أيضاً القيود الأبوية التي أرساها النظام الديني.
تنامي نفوذ المعارضة المنظّمة
في هذا المناخ، كسب المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية (NCRI) زخماً ملحوظاً. وحافظت منظمة مجاهدي خلق الإيرانية (PMOI/MEK)، أكبر مكونات المجلس، على بقائها رغم عقود من الاضطهاد، بدءاً من عهد الشاه وصولاً إلى عهد الملالي. ومن خلال المرونة والحشد والتواصل السرّي داخل إيران، غدت هذه القوى المعارضة فاعلاً محورياً في رسم مستقبل البلاد.
ومع كفاح النظام لكبح الاضطرابات الداخلية، تجذّرت “وحدات المقاومة”—وهي خلايا ناشطين تعمل في الخفاء—في مدن شتى. وقد ساعدت تحرّكاتهم على تنسيق انتفاضات، بدءاً من إضرابات صناعية وحتى احتجاجات خاطفة في أسواق طهران الصاخبة. ومع الوقت، لم يعد المجلس الوطني للمقاومة ورئيسته المنتخبة مريم رجوي مجرد أصوات معارضة، بل باتوا يقدمون أنفسهم كبديل موثوق، وينادون بإيران ما بعد الحكم الديني، قائمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان ودبلوماسية سلمية.
رؤية لإيران مختلفة
تلقى رؤية مريم رجوي صدىً لدى شعب أنهكه القمع والخداع. ومع فشل الاستراتيجيات الأساسية للنظام—من تدخل إقليمي وحروب وإشهار الورقة النووية—في تحقيق الاستقرار والازدهار، يتطلع الإيرانيون إلى سياسات تلبي احتياجاتهم اليومية. وتشير رسالة رجوي إلى حالة عدم الاستقرار الداخلي غير المسبوقة، الناجمة عن ضائقة اقتصادية وجملة من الإخفاقات الجيوسياسية. وتؤكد أن الحروب والقمع لم تجرّ على إيران سوى مزيد من العزلة.
يقترح المجلس الوطني للمقاومة انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً يضع حداً لانتهاكات حقوق الإنسان المنهجية، ويمكّن النساء والأقليات التي عانت طويلاً تحت حكم رجال الدين القمعي. وفي خضم صدمة سقوط سوريا، تكتسب مخططات رجوي لإيران ديمقراطية ثقلاً أكبر. فبغياب عبء دعم طغاة مثل الأسد، يمكن لإيران حرة أن تركّز على إعادة بناء الثقة مع جيرانها، وتعزيز التنمية الاقتصادية، والدفاع عن حقوق وحريات شعبها.
نهاية حقبة
يمثل سقوط دمشق نهاية فصل في تاريخ الشرق الأوسط المضطرب. وبالنسبة للنظام الديني في إيران، يشكل ذلك نكسة مدمرة، تنزع عنه أوهام “محور مقاومة” دائم، وتظهر حماقة الانخراط في حروب بعيدة على حساب تلبية حاجات الشعب في الداخل. ومع إعادة اللاعبين الإقليميين والدوليين حساباتهم، يجد النظام الإيراني نفسه محاصَراً—متفوّقاً عليه من قِبل خصومه، ومتحدياً من قِبل شعبه.
في هذه اللحظة الضبابية، تتكشف حقيقة واحدة: الشعب الإيراني لم يعد مستعداً لتحمّل كلفة طموحات حكامه. إنه يتطلع إلى حكومة تحترم حقوق الإنسان، تضمن العدالة الاقتصادية، وتنفتح على العالم. تقدّم رؤية مريم رجوي، مدعومة بالهيكل التنظيمي للمجلس الوطني للمقاومة، طريقاً ممكناً نحو هذا المستقبل.
بينما يتخبّط قادة طهران بحثاً عن أجوبة، حسم الشعب الإيراني خياراته. إنه يريد إيران متحررة من الطغيان، متخلّصة من الارتباطات الخارجية المدمّرة، ومكرّسة للسلام والاستقرار وكرامة الإنسان. وقد يكون سقوط نظام الأسد في سوريا النقطة المفصلية التي تسرّع مسيرة الإيرانيين نحو اليوم الذي تتحقق فيه هذه التطلعات.