بين رواية الضحية واستراتيجية الهروب من المسؤولية

بقلم: محمد اكن

في خطاب حديث، أعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رسم صورة متكررة عبر التاريخ، حيث قدّم اليهود — ومن ورائهم دولة إسرائيل — كضحايا لحملات تشويه ممنهجة، تقود في النهاية إلى الكراهية والدمار. استخدم نتنياهو المقارنة بين الأكاذيب التي روّجت ضد اليهود في العصور الوسطى، وما يُقال اليوم عن إسرائيل في سياق الحرب على غزة، ليؤسس لسردية دفاعية تحمّل الآخرين، لا سيّما حركة حماس، مسؤولية المأساة الإنسانية المتفاقمة في القطاع.

نتنياهو يرفض بشكل قاطع اتهامات تجويع السكان، مؤكدًا أن إسرائيل سمحت بإدخال مليوني طن من المواد الغذائية، وأن العقبة الوحيدة أمام وصول هذه الإمدادات هي سرقة حماس لها. ومن هذا المنطلق، يعلن أن حكومته قامت بخطوات “إنسانية” منها إلقاء المساعدات جوًا وتخصيص ممرات آمنة، ويشير إلى تعاون دولي في هذه الجهود، كجزء من التزام إسرائيل بحماية المدنيين.

لكن قراءة الخطاب من زاوية واقعية تتطلب فحص عدد من الأسئلة الجوهرية:

أين تقف الحقيقة بين الروايتين؟ في الوقت الذي يتهم فيه نتنياهو حماس بالنهب ومنع المساعدات، تشير منظمات دولية، منها الأمم المتحدة ومنظمة “هيومن رايتس ووتش”، إلى أن إسرائيل تتحكم بشكل مباشر في المعابر وتفرض شروطًا صارمة تعيق وصول الغذاء والدواء، بل وتستخدم ذلك كوسيلة ضغط سياسي.

هل تكفي النوايا الإنسانية لتبرير حصار مستمر؟ حتى وإن صدقت مزاعم “التحليق الإنساني”، فإن واقع الأرض يشي بصعوبات لوجستية تحول دون فعالية هذه العمليات، ناهيك عن كونها غير كافية لتلبية حاجيات مليوني إنسان يعيشون تحت النار.

ما حدود تحميل المسؤولية لحماس؟ لا شك أن الحركة تتحمل جانبًا من المأساة، إن عبر خطابها أو ممارساتها، لكن التهرب من المسؤولية الأخلاقية والقانونية لدولة تفرض حصارًا عسكريًا وسياسيًا شاملاً، يشكل تبسيطًا مخلاً للصراع، وتبريرًا غير مقبول للتجويع الجماعي.

هل خطاب نتنياهو يستهدف الخارج أم الداخل؟ يبدو أن الخطاب موجّه بالدرجة الأولى للجمهور الإسرائيلي والغرب، كجزء من حملة سياسية لصياغة مشهد أخلاقي يبرئ الدولة من أي تهمة، ويُلبس العدو صورة الشيطان المطلق. لكنه لا يقدم أي رؤية سياسية حقيقية لإنهاء دوامة الحرب، ولا يطرح أي مبادرة سياسية لإيجاد حل دائم.

في النهاية، لا يمكن نفي أن إسرائيل — شأنها شأن أي دولة — لها الحق في الدفاع عن نفسها، لكن هذا لا يمنحها غطاء مفتوحًا لممارسة العقاب الجماعي تحت غطاء محاربة الإرهاب. وإذا كانت الرواية التاريخية لليهود في أوروبا مليئة بالمآسي، فإن تكرارها اليوم بصيغة معكوسة ضد شعب محاصر، سيجعل من إسرائيل طرفًا يعيد إنتاج المظالم التي طالما ادّعى مقاومتها.

Related Posts