بقلم : زياد حمدي
في لبنان، لا يموت الناس بالصدفة، بل يُقتلون مرتين: مرة برصاصةٍ طائشةٍ من سلاحٍ غير شرعي، ومرة بصمت الدولة التي تنام على جراح أبنائها.
إيليو أبي حنّا نضيف، ابن الأربعة والعشرين عامًا، لم يكن على هامش الحياة. كان كيميائيًا واعدًا، تخرّج منذ أسابيع وبدأ أولى خطواته المهنية. لم يتعاطَ المخدرات كما زعمت الشائعات، بل كان يشتغل في مختبر الأحلام… إلى أن اخترق الرصاص جسده في وطنٍ بات فيه الموت أسرع من العدالة.
التحقيقات الأمنية نسفت الأكاذيب الأولى. الطبيب الشرعي أكد أن جسد إيليو خالٍ من أي أثر للمخدرات، والنيابة العامة أمرت بتسليم سيارته لذويه بعد أن تبين أنها خالية من أي مضبوطات. الحقيقة واضحة: الشاب لم يكن متورطًا، بل ضحية نظام أمني موازٍ، يختزل الدولة ويستبيح الأرض باسم “القضية”.
الجيش اللبناني تسلّم ستة عناصر من جهاز الأمن الوطني الفلسطيني بعد مفاوضات مع الفصائل، في وقتٍ تشير المعطيات إلى وجود ثلاثة آخرين فارّين، بينهم المدعو عمر خليفة، المشتبه الأول في الجريمة. سبع رصاصات اخترقت سيارة إيليو رباعية الدفع، واستقرت اثنتان في جسده لتوقفا قلبه. رصاصات ليست طائشة، بل موقّعة باسم الفوضى الفلسطينية على أرض لبنانية.
القضية لا يمكن اختزالها في خلافٍ عابر أو خطأ ميداني. ما جرى في شاتيلا هو ترجمة واقعية لزمنٍ لبنانيٍّ فقد توازنه بين السيادة والمجاملة. فمنذ أن قيل إن “السلاح الفلسطيني سُلّم إلى الدولة اللبنانية”، والواقع يصرخ بعكس ذلك: لم يكن تسليم السلاح إلا مسرحية هزلية كتبتها الفصائل وأدتها السلطة، تحت عنوان الشراكة، وبمضمون الاستسلام.
فالسلاح لم يُسلّم، بل أُعيد تدويره. تغيّرت الوجوه، وبقيت البنادق في الأزقة نفسها، تحرس تجارةً وتغطي نفوذًا وتختبئ خلف شعار “القضية”.
في العمق، ما حدث لإيليو ليس حادثة فردية، بل مرآة لخللٍ سياديٍّ ينهش الدولة من أطرافها. كيف يمكن لسلطةٍ تدّعي السيادة أن تقبل بوجود سلاح خارجها؟ كيف نطالب بالأمن فيما المخيمات محميات مسلحة تتقاطع فيها تجارة المخدرات مع الحسابات السياسية؟
جهاز الأمن الوطني الفلسطيني سيطر لاحقًا على المبنى الذي يشغله تجّار المخدرات في مخيم شاتيلا، لكن السيطرة جاءت بعد فوات الأوان. بعد أن سقط شاب لبناني على حاجزٍ غير لبناني، برصاصٍ لا يرفع علمًا ولا يحترم أرضًا.
اللبنانيون لم يغضبوا لأن إيليو من منطقة أو حزبٍ معيّن، بل لأنهم رأوا في وجهه مرآةً لوطنٍ مكسور.
صرخة سامي الجميّل بأن “كل من يبرر بقاء السلاح خارج الدولة شريك في الجريمة” لم تكن موقف حزب، بل صدى لوجعٍ عام. والتيار الوطني الحر بدوره قالها بوضوح: ما سُمّي “تسليمًا للسلاح الفلسطيني” لم يكن سوى مسرحية مبكية تُدار فصولها على حساب الأمن اللبناني.
أما لجنة الحوار اللبناني–الفلسطيني، فدانت الجريمة ودعت إلى حصر السلاح بيد الدولة، في محاولةٍ لاحتواء الغضب، لكنّ اللبنانيين تعبوا من البيانات. ما يطلبونه ليس إدانة، بل دولة.
التحقيقات أظهرت أن سيارة إيليو مصدومة من الخلف، ما فتح باب الشبهات: هل كان مطاردًا؟ أم حاول الهرب من مواجهة؟ أم أن القدر ساقه إلى زقاق الموت في شاتيلا؟
كل الفرضيات تبقى ثانوية أمام الحقيقة الكبرى: لا شيء يبرر قتل شابٍ على أرضه بسلاحٍ غير لبناني.
في المخيم نفسه، بعد مقتل إيليو، سقطت فتاة أخرى برصاصةٍ أمام وكرٍ لتجارة المخدرات. المشهد نفسه يتكرر: الفوضى تلد موتًا جديدًا، والمباني التي كانت مدارس تحوّلت إلى حصونٍ لتجار السموم. وفي كل مرة، يأتي “التحقيق” بعد الجريمة، لا قبلها.
لبنان لا يحتاج إلى لجانٍ جديدة، بل إلى إرادةٍ قديمة: أن تكون الدولة هي المرجع الوحيد، وأن يكون السلاح تحت سقفها فقط. كل ما عدا ذلك تفاصيل لجرائم مؤجلة.
إيليو لم يُقتل لأنه كان في المكان الخطأ، بل لأن الوطن كله صار في الاتجاه الخطأ.
موته ليس قضاءً وقدرًا، بل نتيجة تواطؤٍ مزمن بين العجز الرسمي والتساهل الفصائلي.
تسليم السلاح الفلسطيني لم يكن خطوة نحو السيادة، بل إعلانًا رسميًا بأن السيادة قابلة للتأجير.
دم إيليو يذكّرنا بأنّ الدولة التي تتنازل عن احتكارها للسلاح تفقد حقها في الحياة.
فإما أن تستعيد الدولة سلاحها لتستعيد هيبتها، أو يبقى لبنان رهينة “سلاح الغير” ودماء شبابه على الطرقات.
إيليو لم يمت خطأً، بل سقط في معركةٍ مفتوحة بين دولةٍ ضعيفة ودويلةٍ لا تُحاسَب.
وما لم يُكسر هذا التواطؤ، فستبقى كل رصاصة تُطلق في لبنان تصيب قلب الوطن نفسه… لا ضحاياه فقط.












