بقلم محمد هاشم محمد الحسن
لم يكن رفض الحركة الإسلامية وفلول النظام السابق في السودان لبيان الرباعية مجرد موقف سياسي سطحي، بل كان تجسيداً لوعي عميق بأن هذا البيان يمثل تهديداً وجودياً لمشروعهم، ونسفاً للقاعدة التي بنوا عليها استراتيجيتهم بعد اندلاع الحرب. لقد أدركت هذه القوى أن البيان لم يكن مجرد دعوة لإنهاء الصراع، بل كان بمثابة خارطة طريق دولية وإقليمية لإزاحتهم الكاملة من المشهد السياسي المستقبلي، وإعادة هندسة الدولة السودانية على أسس جديدة تتعارض جوهرياً مع رؤاهم وأهدافهم.
أحد أبرز أسباب هذا الرفض يكمن في شعورهم بأن البيان يُمثّل إعلاناً صريحاً لإقصائهم السياسي. فبتركيزه على ضرورة تشكيل حكومة مدنية انتقالية شاملة، واستبعاد القوى المتطرفة المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، وُضع الإسلاميون في خانة الخصم المعزول، لا الشريك المحتمل في أي تسوية. هذا الإقصاء لم يكن نظرياً، بل جاء ليُفكك المنظومة التي بنوها بعناية، والتي تهدف إلى العودة التدريجية للحكم عبر بوابة الحرب. لقد أدركوا أن أي تسوية تستند إلى هذا البيان ستجعلهم خارج المعادلة، مما يُفقدهم قدرتهم على التأثير في مسار البلاد، ويُحبط محاولاتهم لاستعادة نفوذهم.
كما أن البيان وجه ضربة قاصمة لمشروعهم الجغرافي والأيديولوجي الذي كان قيد التبلور. فعندما أكد على وحدة السودان وسلامة أراضيه، كان ذلك بمثابة رفض ضمني لأي مشاريع تفتيت أو تقسيم، بما في ذلك التصورات المتعلقة بـ(دولة البحر والنهر) التي يُعتقد أنهم كانوا يطمحون إلى إقامتها. هذا التأكيد لم يكن مجرد صياغة دبلوماسية، بل كان إعلاناً سياسياً يُسقط فكرة إعادة إنتاج الدولة على أسس أيديولوجية ومناطقية خاصة، ويُعيد ترسيخ مركزية الدولة السودانية في مواجهة أي مخططات تفكيكية.
ولم يقتصر تأثير البيان على الجوانب السياسية والأيديولوجية، بل امتد ليشمل تفكيك التحالف القائم بين الحركة الإسلامية والمؤسسة العسكرية. لقد اعتمد الإسلاميون على الجيش كمظلة شرعية للعودة إلى الحكم، واستخدموا خطاب (المقاومة الشعبية والدفاع عن السيادة الوطنية) لتبرير وجودهم العسكري. ولكن عندما أشار البيان إلى ضرورة استبعاد أطراف الحرب من العملية السياسية، بما في ذلك الجيش، كشف الغطاء الذي كانوا يستظلون به. هذا التحول أعاد تعريف الفاعلين السياسيين على أساس مدني صرف، وجردهم من الأداة التي استخدموها لشرعنة وجودهم، مما وضعهم في مأزق حقيقي وأسقط عنهم أي شرعية مستقبلية.
إن هذا الرفض كشف عن انكشاف خيارات الحركة الإسلامية الاستراتيجية. فقد كانت تراهن على مسارين رئيسيين ( إما حسم الصراع عسكرياً عبر تحالفها مع الجيش، أو التفاوض من موقع قوة). بيان الرباعية أغلق هذين الخيارين معاً، فقد سحب الغطاء الشرعي لتحالفها مع الجيش، وفي الوقت نفسه فرض عليها شروطاً للتفاوض لا تملك قبولها. هذا الواقع جعل الرفض هو الخيار الوحيد المتاح، حتى لو كان يعني مزيداً من العزلة.
كما أن رفض الإسلاميين لا يمكن فهمه بعيداً عن العامل الإقليمي ودور التحالفات المتغيرة. فالبيان، بما يضمه من قوى دولية (الولايات المتحدة والمجتمع الدولي) وإقليمية (السعودية والإمارات ومصر)، يُنظر إليه في جوهره كتصفية حسابات مع هذه القوى. هو استجابة مباشرة لمخاوف دول الخليج من عودة نفوذ الإخوان المسلمين إلى السلطة في السودان، والذي يُنظر إليه كتهديد لاستقرار المنطقة. وفي الوقت ذاته، يُعد رداً على مخاوف واشنطن من التوسع الإيراني عبر وكلائه في المنطقة. هذا البعد الإقليمي يوضح أن رفض الإسلاميين ليس مجرد رفض لورقة دبلوماسية، بل هو رفض لواقع إقليمي جديد لم يعد يسمح لهم باللعب بنفس القواعد القديمة.
الأخطر من ذلك، أن البيان وضعهم في خانة المسؤولية عن إشعال الحرب، واعتبرهم عائقاً أمام أي تسوية، مما يُعيد تشكيل صورتهم في الوعي المحلي والدولي كطرف يُفاقم الأزمة، لا كقوة وطنية. هذا التصنيف يُضعف ما بنوه من قاعدة شعبية، ويُحاصر خطابهم في زاوية الدفاع عن الذات بدلاً من المبادرة السياسية. كما أن الإجراءات المصاحبة للبيان، مثل العقوبات التي فُرضت على كتيبة (البراء بن مالك)، تُعد مؤشراً على بداية مرحلة جديدة من الضغط الدولي الذي يستهدف خنقهم اقتصادياً وقطع وسائل الإمداد عنهم، مما يُضعف قدرتهم على الاستمرار في الحرب أو التأثير في المشهد.
إن رفض الإسلاميين لهذا البيان يعكس إدراكاً بأنهم باتوا في مواجهة مع المجتمع الدولي والإقليمي، مما يُعزز من عزلتهم ويُضعف قدرتهم على بناء تحالفات جديدة. هذا الموقف يضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانكفاء والتراجع عن أدواتهم العسكرية والسياسية، أو المواجهة المباشرة مع المجتمع الدولي والإقليمي، وهي مواجهة تبدو خاسرة في ظل التوازنات الراهنة.