فيصل مرجاني
لقد جأت الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت اجتماع قيادة حماس الإرهابية في الدوحة ليست مجرد عملية عسكرية محدودة، بل فعل استراتيجي يحمل في طياته تحولات جيوسياسية عميقة. إنها إعلان صريح بأن إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر، لم تعد تقبل بمنطق الردع التقليدي أو بحدود جغرافية ترسمها الأعراف الدبلوماسية، بل انتقلت إلى منطق الحرب الوجودية المفتوحة، حيث يصبح ملاحقة المسؤولين عن الإرهاب حقًا سياديًا يتجاوز كل اعتبار. إن استهداف العمق القطري يحمل معنى واحدًا: لا حصانة بعد اليوم لأي طرف يموّل أو يأوي أو يحمي من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء.
قطر، التي تسعى منذ سنوات لتقديم نفسها كوسيط دولي قادر على التوسط بين إسرائيل وحماس، لم تكن يومًا سوى دولة راعية لخطاب الإسلام السياسي ومغذّية للبنية التحتية للتطرف في المنطقة. فمنذ أحداث ما يسمى بالربيع العربي، تبنت الدوحة خطابًا مزدوجًا: خطابًا مهادنًا موجّهًا للغرب يقوم على لغة الاستثمار والديبلوماسية الناعمة، وخطابًا تعبويًا موجّهًا للشرق يرتكز على التجييش الديني وتغليف العنف برداء المقاومة. هذا المشروع وجد أداة تنفيذية في قناة الجزيرة التي لم تكن سوى منصة بروباغاندية حديثة، وظفت أحدث تقنيات الإعلام والاتصال لتفكيك المجتمعات العربية، وإعادة تشكيل وعيها على أسس أيديولوجية مشبعة بالكراهية والعداء.
وفي موازاة ذلك، مولت قطر حركات وجماعات مسلحة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، واستثمرت في مراكز بحثية ولوبيات إعلامية وسياسية، ورشَت مسؤولين وأحزابًا وصحفًا، في محاولة لإنتاج صورة زائفة عن نفسها كقوة لا غنى عنها في النظام الدولي. لكنها في الحقيقة لم تفعل سوى شراء النفوذ عبر ازدواجية الخطاب: من جهة تُسوّق للغرب صورة الدولة الصغيرة الطموحة الحليفة، ومن جهة أخرى تغذي في الشرق خطابًا أيْديو-دينيًا يستثمر في الأزمات ويُشرعن التطرف.
أما حماس، فبعد السابع من أكتوبر، أظهرت وجهها الحقيقي، حيث اتضح أن نيتها الحقيقية تقتصر على حماية نفسها وقياداتها لا أكثر فقد رفضت أي مفاوضات جدية تعنى بمصير المدنيين أو الأسرى، وأظهرت أن كل ما تسعى إليه هو ضمان سلامة قادتها وأسرهم والإفراج عن أموالها المحتجزة، دون أي اعتبار للالتزامات الإنسانية أو المسؤولية تجاه الشعب الذي تدعي تمثيله. هذه العقلية البراغماتية الفجة جعلت إسرائيل أكثر اقتناعًا بأن أي تسوية مع حماس ليست سوى وهم، وأن مواجهة هذه الجماعة لا يمكن أن تُختزل في قطاع غزة، بل يجب أن تشمل حواضنها المالية والسياسية أينما وُجدت.
لقد جاءت الضربة الإسرائيلية ضد المنظومة النووية الإيرانية أولًا، وكانت بمثابة الذروة في تأكيد ما أعلنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مرارًا بأن هذه الحرب وجودية، وأن إسرائيل لن تسمح لأي قوة إقليمية بتهديد بقائها. هذه العملية التي أدت إلى تحطيم جزء أساسي من البنية النووية الإيرانية أثبتت أن العقيدة الجديدة لإسرائيل تقوم على تدمير التهديد في عمقه الأصلي. حيث سبقتها ضربات موجعة ضد وكلاء إيران في لبنان وسوريا واليمن، فأضعفت بنياتهم الهجومية وأربكت حساباتهم الاستراتيجية. وفي امتداد مباشر لهذا النهج، جاء استهداف قيادة حماس الإرهابية في قلب الدوحة. لقد كان وزير الدفاع الإسرائيلي أكثر وضوحًا حين قال إن إسرائيل ستفتح “أبواب الجحيم” أمام منفذي السابع من أكتوبر، مؤكدًا أن يد الجيش ستصل إلى كل مكان تُصنع فيه المؤامرة أو يُصان فيه الإرهاب.
من الناحية العسكرية، تمثل هذه العمليات تجسيدًا لمفهوم الضربات ما وراء الحدود، حيث لم يعد الردع مقتصرًا على حدود الاشتباك المباشر، بل أصبح أداة لإعادة صياغة البيئة الإقليمية برمتها عبر زعزعة يقين الخصوم وإرباك حساباتهم. إسرائيل، من خلال ضرب إيران أولًا ثم قطر، أرادت أن تؤكد أن الردع لم يعد مقيدًا بالجغرافيا، بل تحوّل إلى قوة جوية-استخباراتية عابرة للأقاليم، قادرة على تدمير مراكز القيادة والتحكم حيثما وُجدت.
وفي هذا السياق، وجدت قطر نفسها في مأزق استراتيجي حقيقي. فكل ما بنته من نفوذ عبر الجزيرة ولوبيات الضغط تهاوى أمام حقيقة واحدة: أنها عاجزة عن حماية نفسها، وأن كل التعاطف الدولي معها لا يعدو كونه مجاملة بروتوكولية. تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير جاء بمثابة تذكير قاسٍ بهذا الواقع، حين كتب: “I have directed Secretary of State Marco Rubio to finalize the defense cooperation agreement with Qatar”. هذا التصريح لا يعكس مجرد خطوة إجرائية، بل يعبر عن العقيدة الترامبية الثابتة: لا حماية دون مقابل، ولا تحالف دون ثمن سياسي واقتصادي. وهو ما يعني أن قطر ليست إلا رهينة لالتزاماتها تجاه واشنطن، وأنها لا تملك حتى قرار حماية نفسها، فكيف لها أن توفر الحماية لقيادة إرهابية كالتي تمثلها حماس؟
إن الضربات الإسرائيلية المتعاقبة من تحطيم المنظومة النووية الإيرانية، إلى تفكيك قدرات وكلائها في المشرق واليمن، وصولًا إلى استهداف قيادة حماس في قلب الدوحة ترسم ملامح عقيدة عسكرية جديدة، عقيدة لا تعترف بالخطوط الحمراء، وتقوم على ملاحقة مصادر التهديد في مراكزها الأصلية، وبناء الردع على اليقين لا على الاحتمال. وهكذا يتضح أن إسرائيل تخوض حربًا وجودية بكل المقاييس، كما أكد نتنياهو ووزير دفاعه، فيما تجد قطر نفسها عالقة بين ازدواجية خطابها الإعلامي وحاجتها الدائمة إلى المظلة الأمريكية، دون أن تكون قادرة على حماية نفسها أو حماية من اختارت إيواءهم من قادة حماس.