بقلم ماريا معلوف
يرى المتابعون والباحثون أن اتفاقية سايكس–بيكو، التي قسمت مناطق النفوذ دون أن ترسم حدودًا ثابتة، كانت خطأ استراتيجيًا تسبب في ويلات كبيرة لشعوب الشرق الأدنى. ويظل ما قاله المبعوث الأميركي توم براك، عندما غرد قائلاً: «منذ قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط وحدودًا مرسومة ووصايات وحكمًا أجنبيًا. فقد قسمت اتفاقية سايكس-بيكو سوريا والمنطقة الأوسع لخدمة مصالح إمبريالية، لا من أجل السلام. وقد كلف هذا الخطأ أجيالًا كاملة، ولن نسمح بتكراره مرة أخرى»، شهادة واضحة على أن الجغرافيا في هذه المنطقة لم تحسم بالحبر وحده.
اليوم، يؤكد براك أن زمن التدخلات الغربية قد ولى، وأن الحلول يجب أن تكون إقليمية، مبنية على الشراكة والاحترام المتبادل. غير أن ما لم يقله بوضوح هو أن هذه الحلول لن تتحقق ما لم يتحمل أهل المنطقة مسؤولية تصحيح أخطاء الماضي بأنفسهم. فمأساة سوريا بدأت بالانقسام، وإعادتها إلى الحياة لن تكون إلا عبر الوحدة والكرامة واستثمار الشعب في وطنه. وينطبق هذا المنطق على لبنان أيضاً، الذي يستحق أن ينبثق من رماد انقسامات الماضي، وأن يستعيد سيادته من قبضة السلاح، كما عاد يوسف إلى يعقوب سيداً لا سجينا.
غير أن تحذيرات براك الأخيرة لصحيفة «ذا ناشونال» تكشف أن الخطر ما زال قائماً، إذ نبّه إلى أن لبنان مهدد بالوقوع مجددًا تحت سيطرة القوى الإقليمية إذا لم يُحل ملف سلاح حزب الله. وبين هذا التحذير وتلميحات السياسي السوري كمال اللبواني، الذي تحدث صراحة عن غزو طرابلس وصيدا ونسف الكيان اللبناني، يتضح أن التاريخ قد يعيد نفسه بأبشع صورة إذا استمر اللبنانيون في التمسك بالكلام بدل العمل.
الرسالة هنا واضحة. بلد عاجز عن فرض سيادته الكاملة يبقى عرضة للتآكل من الداخل أو للاحتلال من الخارج. وإذا لم يكن لدى لبنان مشروع سيادي جامع يضع حداً للسلاح خارج إطار الدولة، فستظل الأبواب مفتوحة أمام من يعتبر هذه الأرض حديقة خلفية أو مسرحًا للنفوذ العابرة. وفي هذه الحالة، يصبح التهديد الذي حذّر منه براك واقعًا لا مجرد تحذير.
لبنان اليوم في سباق مع الزمن. فلا حماية له من التمدد السوري، ولا من صفقات التفاوض مع إسرائيل، ولا من أجندات إيران، سوى بإطار داخلي موحد: دولة قادرة، مؤسسات محترمة، جيش قوي ومتمكن، وشعب يتمسك باسمه وأرضه وسلاحه.
قد يرى البعض أن براك بالغ في وصفه الخطر بالوجودي، لكن قراءة المشهد تؤكد صحة تحذيره. كل تأخير في معالجة ملف السلاح يعني تأجيل تفكك الدولة. وكل تهديد علني، كما قال اللبواني، ليس سوى تمهيد لإعادة رسم الخرائط بمدافع لا بمواثيق.
إن لم يفهم اللبنانيون أن بقاءهم مرتبط بقرارهم الحر، فسيأتي من يفرض عليهم مصيرهم من جديد. لا يحتاجون إذًا إلى دروس في الجغرافيا، بل إلى شجاعة حقيقية توقف لعبة المماطلة، وتحول التسويات المؤجلة إلى حلول فعلية. حينها فقط، لن يتكرر الخطأ الذي حذّر منه براك، ولن يعود لبنان حديقة خلفية أو ساحة بديلة، أو ورقة في يد أحد.













