عندما یطلق رئيسُ حكومةٍ كلماتٍ هزيلةً عن «تقنينٍ» محتملٍ أو «إخلاءِ» مدينةٍ تضمُّ أكثر من عشرة ملايين إنسان، لا يكونُ الأمرُ مجردَ تحذيرٍ إداريٍّ، بل كشفٌ عن فشلٍ مركزيٍّ في إدارة حياة الناس وسلامتهم. إعلانُ مسعود بزشکیان في 6 نوفمبر بأنّ «طهران قد تضطرّ إلى تقنين المياه في الشهر المقبل، وأنّه إذا لم تمطر فأنه يجب إخلاءُ المدينة» ليس تصريحًا تقنيًا فحسب، بل انعكاسٌ صارخٌ لعمق الأزمة والفراغ المحافظ الذي يُخفيه الخطاب الرسميّ.
الوقائعُ أمامنا قاسية: مخزونُ سدّ لار، بسعةٍ اسميةٍ تقارب ۹۶۰ مليون متر مكعّب، لا يحتوي اليوم إلا على نحو ۱۴ مليون متر مكعّب. التصريحات الرسمية تُقرّ بأنّ ۶۶% من الخزّانات فارغة. تحذيراتُ خبراءٍ ومؤسّساتٍ مختصّةٍ عن قرب نفاد مخزون سدّ كرج وحتّى لتيان، وتحذيراتٌ من أنَّ مستنقع گاوخوني وجزءٌ من بحيرة أورميه يواجهان جفافًا مدمِّرًا. هذه أرقامٌ لا تُدافع عن نفسها؛ إنها تُدينُ من اتُّهم بإدارتها أو بمصادرتها.
لكنّ الروايةَ الرسميةَ ــ التي تُسند كلّ شيء إلى «الجفاف» الطّبيعي ــ تفتقر إلى صدقيّةٍ علميّةٍ وسياسيةٍ حين تُقرنُ بها اعترافاتٌ داخلَ النظام نفسه عن وجود «شبكات نفوذ» و«مافيات» تتحكم في سياسات المياه وتمويلها. كلامٌ عن «بيع المياه» كمصدر تمويل، عن احتكاراتٍ ومشاريعٍ ناقلةٍ واستثماراتٍ مريبةٍ، وعن دور شركات ومجموعاتٍ مرتبطةٍ بمقرّات السلطة، لا يمكن تجاهله إن أردنا فحص أسبابِ الأزمةِ الحقيقيةِ وليس مداواةِ أعراضها بكلماتٍ متهافتة.
المعضلةُ ليست اختصارًا في ندرةٍ مطريّةٍ فحسب، بل في إدارةٍ فاسدةٍ وأولوياتٍ منحرفةٍ وسياساتٍ تُحوّلُ مرفقًا عامًا إلى سلعةٍ مُسوَّقةٍ وربحٍ خاصّ. إنّ الاتّهاماتِ المُتداخلةَ عن «مافيا المياه» التي تقيّدُ تنفيذَ برامجٍ حديثةٍ لإدارةِ الموارد، أو تُعيقُ مشاريعَ الحفظِ والتوزيعِ، تشير إلى أنّ الحلّ لا يكمن في انتظارِ المطر، بل في قطعِ منابعِ الفسادِ ومساءلةِ الجهاتِ المتورِّطةِ باحتكارِ الموارد.
في هذا السياق، يستعيدُ المرءُ العبارةَ الحادّةَ لزعيم المقاومة الإيرانية مسعود رجوي التي تحوِّلُ مفهوم الإخلاء: «نعم، يجب إخلاء طهران ــ لكن من هذا النظام». هذه الكلمات ليست دعوةً للعنف، بل صيحةٌ تحذيريّةٌ تُفهمُ كنداءٍ لإعادةِ ملكيةِ المواردِ العامةِ إلى مواطنيها، ولإعادةِ بناءِ مؤسساتٍ شفّافةٍ، مسؤولةٍ، وقادرةٍ على إدارةِ كلّ قطرةٍ من ماءٍ في خدمةِ الناسِ وليسِ لصالحِ شبكاتٍ مغلقةٍ.
إزاءَ ذلك، المطلوبُ واضح: تحقيقٌ مستقلّ، كشفٌ عن عقودٍ وسلوكياتٍ ومتعاقدين، وإصلاحاتٌ فوريةٌ في سياسةِ الحِكْمَةِ المائيةِ تشملُ إعادةَ توزيعٍ عادلٍ، برامجَ لحفظِ الموارد، تحديثَ البنى التحتية، وتعويضاتٍ للمناطقِ الأكثرِ تضرّرًا. كما أنّ الشفافيةُ وتفعيلُ دورِ المجتمعِ المدنيِّ والخبراءِ ضروريّان لإعادةِ ثِقةِ الجمهورِ وإيقافِ نزيفِ الثرواتِ.
إنّ انتظارَ «موسمِ مطرٍ منقذ» ليس استراتيجيةً؛ بل مَقامرةٌ مصيريةٌ على حياةِ ملايينَ المواطنين. الحلّ يحتمُ محاسبةَ من أقامَ منظومةَ الاحتكارِ والنهبِ، وفرضَ سياساتٍ وطنيةٍ لحمايةِ المياهِ كحياةٍ عامةٍ لا تُباع ولا تُنهب. أيُّ تأجيلٍ في هذا الاتجاه ليس نَفادَ مواردٍ فحسب، بل جريمةٌ أخلاقيةٌ وسياسيةٌ بحقّ شعبٍ يستحقُّ إدارةً تحميهُ وتُؤمّنُ لهُ مستقبله.













