في زمن الضجيج… او حين يصبح صوت السلام جريمة

بقلم: محمد اكن

نعم، نقولها بصدقٍ واعتزاز: إذا كان في قولنا «كلّنا إسرائيليون» معنى للإنسانية المشتركة، ولرغبتنا في رؤية الآخر لا كعدوّ بل كشريكٍ في الوجود، فلتكن هذه الكلمة مفخرة لا تهمة. ليست ولاءً لدولة ولا اصطفافاً سياسياً، بل انتماءٌ إلى فكرةٍ أسمى من الحدود، وإيمانٌ بأن الإنسان وُجد ليُحبّ لا ليُحارب، وأن الكرامة لا تتجزأ بين أعراقٍ وأديان. تلك الكلمة التي أُريد لها أن تكون وصمة، صارت لنا شرفاً، لأنها تختصر جوهر دعوتنا إلى السلام: أن نرى الإنسان قبل الهوية، والحياة قبل الصراع.
في المشهد العربي الحديث، غابت البوصلة الأخلاقية بين من يرفعون شعار التحرير ومن ينسون تحرير الإنسان من داخله. صار مفهوم السلام محاطاً بتأويلاتٍ متناقضة، يتنازعه السياسيون والمزايدون على حساب الحقيقة. فالخطاب الذي تربّى على ثقافة المواجهة لم يفهم بعد أن السلام ليس نقيض الكرامة، وأن التعايش لا يعني التنازل، وأن الاعتراف بإنسانية الآخر لا يُعدّ خضوعاً بل نضجاً إنسانياً.
الذين يدافعون عن السلام اليوم لا يسعون إلى مجدٍ شخصي، بل إلى ترميم الضمير الجمعي الممزّق بين التاريخ والجراح. هم رجال أنهكتهم رؤية الدم حتى صاروا يحلمون بحياةٍ بلا خوف، ومع ذلك يُواجهون بالاتهام والازدراء. تُلاحقهم كلماتٌ مثل “الخيانة” و“العمالة” لأنهم تجرأوا على التفكير ضد التيار، ولأنهم فهموا أن الكراهية لا يمكن أن تكون مشروع حياة.
لقد تحوّلت تهمة “العمالة” في الوعي العربي إلى أداةٍ لتكميم العقول وحراسة السردية السائدة. فهي ليست اتهاماً سياسياً بقدر ما هي ردّ فعلٍ عاطفي على كل محاولةٍ للتفكير المختلف. من الأسهل أن تلعن دعاة السلام من أن تواجه السؤال الصعب: لماذا لم تنتصر أية حرب على الموت؟ لماذا نصرّ على توريث أجيالنا منطق الدم بدل منطق الحياة؟ وهكذا يصبح رجل السلام مرآةً محرجة لمجتمعٍ يخاف أن يرى نفسه في وجه الحقيقة.
الدفاع عن السلام لا يحتاج إلى سلاح، بل إلى شجاعةٍ أخلاقية تفوق شجاعة المقاتلين. فالمحارب يواجه عدواً مرئياً، أما رجل السلام فيواجه جيوشاً من الأوهام والخطابات المقدّسة بالعنف. ومع ذلك، يمضي بثباتٍ مؤمناً أن الغفران لا يُلغي الذاكرة بل يُطهّرها، وأن الانتصار الحقيقي ليس في هزيمة عدو، بل في نجاة الإنسان من ذاته.
ولعلّ أكثر ما يؤلم أن نرى في شوارع المغرب — أرض التسامح والعيش المشترك — من يهتف ضدّ دعاة السلام، فقط لأنهم حلموا بعالمٍ أوسع من الدم والرايات. أولئك الذين يظنون أن قولنا «كلّنا إسرائيليون» خيانة، لم يدركوا أن المقصود ليس ولاءً سياسياً، بل إعلان انتماءٍ للضمير الإنساني في وجه الكراهية. إنها صرخة ضدّ حصر الهوية في معسكرات الحقد، ورفضٌ لأن يكون الإيمان جداراً يفصل بين البشر.
نعم، نقولها بفخرٍ وكرامة: إذا كانت هذه الكلمة تعني أننا نؤمن بإنسانيةٍ واحدةٍ تتسع للجميع، فهي شرفٌ لنا لا عار. نحن لا ننتسب إلى علمٍ أو حدود، بل إلى ضميرٍ يرى في كلّ إنسانٍ مرآةً للآخر. نحن أبناء إبراهيم، أبناء الفكرة التي جمعت الأديان على مبدأ الرحمة قبل أن تفرّقها المصالح.
وسيبقى يومٌ قادم، تفهم فيه تلك الأصوات الغاضبة أن الكراهية لا تبني أوطاناً، وأن الخيانة الحقيقية ليست في الحلم بالسلام، بل في وأده خوفاً من المزايدة. وسنظلّ، رغم الاتهامات، واقفين في صفّ الحياة لا الموت، في صفّ الإنسان لا الشعارات. لأن من أحبّ الإنسان، لا يمكن أن يكون خائناً، بل حارساً للنور في زمنٍ غلبه الظلام.

Related Posts