روبيو والسودان.. حين تعترف واشنطن بما كانت تتجاهله

بقلم: ماريا معلوف
لم تكن تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن السودان مجرّد موقف سياسي عابر. فهي أشبه بجرس إنذار متأخر في حربٍ أرهقت الدولة السودانية ومزّقت مجتمعها.
حين قال روبيو إن “قوات الدعم السريع توافق على الأمور ولا تلتزم بها أبدًا”، لم يكن يصف تكتيكًا ميدانيًا فقط، بل كان يلمّح إلى حقيقةٍ ظلّ الغرب يتجاهلها طويلًا: أن هذه الميليشيا هي لبّ الأزمة، لا أحد ضحاياها.

منذ اندلاع القتال في أبريل 2023، اكتفت العواصم الغربية بالحديث عن “طرفي النزاع” كما لو أنّهما كيانان متكافئان في المسؤولية، بينما كانت الفظائع تُرتكب بدمٍ بارد ضد المدنيين. واليوم فقط، بدأت واشنطن تتحدث بلغة مختلفة: لا التزام، لا هدنة، لا مصداقية لقوات الدعم السريع، والأخطر من ذلك أنها تتلقى دعمًا من الخارج.
هذا التحول في الموقف الأميركي لم يأتِ من فراغ. فالإدارة الأميركية تابعت خلال الأشهر الماضية تقدّم الميليشيا وارتكابها انتهاكات ممنهجة، إلى أن صار الصمت مكلفًا سياسيًا وأخلاقيًا في آنٍ واحد.

روبيو، وهو يتحدث أمام الصحافيين بعد اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع، بدا وكأنه يقرّ بما ظلّ غير معلن: أن الدعم السريع بات خطرًا يتجاوز حدود السودان، وأنّ استمرار تدفق السلاح إليه يهدّد بخلق بؤرةٍ جديدة للتطرف في قلب إفريقيا.
وحين لمح إلى احتمال إدراج الميليشيا على لوائح الإرهاب، كان يوجّه رسالته مباشرةً إلى الدول المتورطة في تمويلها أو السماح بمرور الأسلحة عبر أراضيها. الرسالة كانت واضحة: واشنطن تعرف، وتراقب، وقد آن أوان الحساب.

في الخرطوم، رحّبت الحكومة السودانية بالموقف الأميركي الجديد باعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح. فوزير الخارجية محي الدين سالم عبّر صراحةً عن أن المجتمع الدولي بدأ أخيرًا يسمّي الأشياء بأسمائها، ويفرّق بين جيش وطني يقاتل دفاعًا عن الدولة وميليشيا قبلية تمارس القتل والنهب باسم القوة.
تلك اللهجة بدت مختلفة عمّا سبق، إذ استشعرت الخرطوم أن الوقت ربما حان لتصحيح الصورة التي رُسمت عنها في الإعلام الغربي منذ بداية الحرب.

أما “الدعم السريع”، فقد ردّ كعادته بالإنكار والاتهام، زاعمًا أن تصريحات روبيو “غير موفقة” وأنها لا تخدم مسار الرباعية. لكنّ هذا التوتر في الردّ يكشف إدراكًا عميقًا بأن الغطاء الدولي بدأ يتصدّع، وأنّ مرحلة “الشرعية الضبابية” التي عاشتها الميليشيا تقترب من نهايتها.

وراء هذا الجدل الدبلوماسي، يبقى الواقع الإنساني هو الأشد قسوة: أكثر من 13 مليون نازح و40 ألف قتيل، وفق تقديرات الأمم المتحدة، في حربٍ حوّلت مدنًا كاملة إلى ركام. لذلك لم يكن حديث روبيو عن “الكارثة الإنسانية” مجرّد تعاطف، بل تحذير من أن استمرار الدعم الخارجي سيجعل السودان ساحة مفتوحة لكل أشكال الفوضى.

الولايات المتحدة التي كانت تتحدث سابقًا عن “الانتقال الديمقراطي” تجد نفسها اليوم أمام مفارقة مؤلمة: لا يمكن بناء ديمقراطية على جثة دولة. ولا يمكن السكوت عن ميليشيا ترتكب الاغتصاب والتصفية والنهب ثم تُعامل كطرفٍ سياسي.
تصريحات روبيو، مهما بدا أنها جاءت متأخرة، تمثل بداية مرحلة جديدة: مرحلة تسمية المجرم كما هو، والاعتراف بأنّ الحفاظ على السودان كدولة هو الشرط الأول لأي حديثٍ عن سلام أو إصلاح.

في النهاية، يمكن القول إن ما قاله روبيو ليس موقفًا عابرًا، بل انعكاس لتحوّلٍ أوسع في المزاج الدولي تجاه السودان. فبعد عامٍ ونصف من التجاهل والمراوحة، بدأت واشنطن ترى أن الوقت قد حان لتحديد من يهدد السلام، ومن يدافع عن بقاء الدولة.
ربما لا تنتهي الحرب غدًا، لكنّ الحقيقة خرجت إلى العلن: لا تسوية مع من جعل من السودان ساحةً للمرتزقة، ولا صمت بعد اليوم على من ارتكب كل هذا الخراب باسم القوة.

Related Posts