الاستثمار السعودي في سوريا: عندما تتقدّم السياسة بصمت وتتكلم الأرقام

بقلم: ماريا معلوف

ليست الأهمية في حجم الاستثمار وحده، بل في التوقيت والمكان والرسالة. 19 مليار ريال سعودي ليست مجرد أرقام، بل إعلان مدوٍّ عن تحوّل استراتيجي تقوده المملكة العربية السعودية في الإقليم، وتحديدًا في سوريا. فحين تُعلن الرياض، عبر أحد أبرز رجالاتها، المستشار تركي آل الشيخ، عن مشاريع عملاقة في قلب دمشق، فإنها لا تسجل حضورًا اقتصاديًا فقط، بل تؤسس لمرحلة جديدة من التموضع السياسي العاقل، الذي لا يحتاج إلى ضجيج.

الاستثمار ليس رفاهًا في بلدٍ ما زال يرمم أنقاض حروبه، بل فعل سيادي يرسم خريطة المستقبل. من قصر المهاجرين، وليس من العواصم الغربية، اختارت المملكة أن تطلق رسالتها: سوريا ليست صندوقًا مغلقًا في يد العقوبات، بل بوابة يمكن عبورها إلى استقرار المنطقة. ومن خلال هذا المنتدى الاستثماري، قالت السعودية ما لم تقله الدول الكبرى في مؤتمرات جنيف وأستانا وسوتشي: الطريق إلى الإعمار يبدأ من الشراكة لا من الوصاية.

السعودية لم تنتظر انتهاء كل الملفات السياسية لتدخل، بل دخلت لتكون فاعلًا في صياغة نهاياتها. اختيار دمشق، وليس أي مدينة أخرى، لانعقاد المنتدى الاستثماري لم يكن عبثًا. وكذلك اختيار توقيت رفع جزء من العقوبات الغربية، بالتزامن مع إعلان التزام سعودي–قطري بتسوية ديون سوريا لدى البنك الدولي، أعاد تأهيل البلاد لاستقبال التمويل الدولي. الخطوة تحمل توقيع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الرجل الذي قرر أن لا يُترك الفراغ ليملأه الآخرون، وأن إعادة تموضع السعودية في الإقليم لن يكون كلامًا صحافيًا، بل مشاريع ملموسة تمتد من خطوط الغاز والمياه والكهرباء، إلى المدن الطبية والثقافية والترفيهية.

عندما يقول رئيس مجلس الأعمال السعودي السوري محمد أبو نيان إن “سوريا هي المملكة العربية السعودية”، فهو لا يتحدث بلغة المجاز، بل بمنطق المصير المشترك. فالسعودية، وفقًا لخطة 2025 – 2030، لا تبحث عن استثمارات آنية، بل عن إعادة هندسة العلاقات الإقليمية على أساس من المصالح المتبادلة والتنمية المستدامة.

إن ضخ هذا الكم من الاستثمارات في البنى التحتية والصناعة والاتصالات والسياحة ليس مجرد دعم سياسي لسوريا الدولة، بل هو رهان على الشعب السوري، على شبابه ومؤسساته واقتصاده. هي محاولة لربط دمشق مجددًا بالشبكة العربية – لا من باب البيانات الدبلوماسية – بل من بوابة الاقتصاد، حيث لا مكان للعداء ولا مساحة للضغائن في عقود البناء.

كلمة ولي العهد، التي اختتم بها المنتدى، جاءت بصيغة الوجدان لا بصيغة السلطة: “هذه المشاريع ليست فقط عقوداً اقتصادية، بل هي وعد حياة جديدة”. عبارة تشرح فلسفة السعودية الجديدة: الاستثمار ليس فعل تملك، بل فعل تحرير. تحرير سوريا من عزلتها، من اقتصاد العقوبات، ومن عبء الفوضى.

هذه ليست مشاريع ترف، بل احتياجات حقيقية: مترو يربط شرق دمشق بغربها، خطوط مياه من طرطوس، محطات طاقة شمسية… وكأن المملكة تقرأ خريطة سوريا من تحت الركام، وتختار أن تبني حيث تهدّم الآخرون، وأن تزرع حيث أحرق غيرها.

في ظل غياب رؤية عربية موحّدة حيال دمشق، تمضي الرياض منفردةً برؤية واضحة: لا يمكن ترك سوريا فريسة للإفلاس أو الارتهان. فالمعركة المقبلة في المنطقة ليست عسكرية، بل اقتصادية، ومن يملك الجرأة على فتح الأبواب المغلقة هو وحده من يصوغ مستقبل الشرق الأوسط.

السعودية اليوم لا ترمم الخرائط، بل تعيد رسمها. وفي قلب هذا المشهد، تتقدم دمشق لتكون شريكة لا متلقية، حاضرة لا هامشية. والسعودية، بخطوتها هذه، تقول: الاستقرار لا يُمنح، بل يُبنى. ومن أراد أن يفهم، فليقرأ في عقود الاستثمار أكثر مما يقرأ في نشرات الأخبار.

Related Posts