الإمارات تُعدّل حكومتها… فتُعدّل في معادلات العالم

بقلم: ماريا معلوف

حتى في تفاصيل التعديل الوزاري، تُدهشك الإمارات. ليس لأن التعديل مفاجئ، بل لأنه محسوب بميزان المستقبل. ففي دولةٍ لا تُدار بالعشوائية ولا تُحكم بالارتجال، يصبح كل تغيير وزاري، مهما بدا بسيطاً، لبنة جديدة في عمارة الإمارات الدولة التي تُصمّم على مقاس القرن القادم.
فبينما لا تزال دول تناقش الذكاء الاصطناعي كأداة، كانت الإمارات تمنحه لمواطنيها مجاناً، ليكون في متناولهم، لا امتيازاً، بل حقاً. ومع هذه الروح التقدمية، جاء الإعلان عن تعديل حكومي محدود، لكنه عميق في دلالاته، شمل استحداث وزارة جديدة بالكامل تُعنى بالتجارة الخارجية، وتعيين الدكتور ثاني بن أحمد الزيودي وزيرًا لها.
لكن القصة لا تقف عند مجرد تعيين وزير، بل تكمن في منطق القرار ذاته: فصل التجارة الخارجية عن وزارة الاقتصاد، وتوسيع إطارها لتكون جهازاً سيادياً متفرغاً لفتح الأسواق، وقيادة التفاوض، ورسم شبكة الشراكات الدولية. هذا فصل لا يضعف الهيكل بل يُنقّيه، ويعزز التخصص، ويحرّر الملفات الكبرى من ازدواجية المهام.
ولأن الإمارات تعي أهمية الإعلان، بقدر أهمية القرار، تولّى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ،نائب رئيس الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، إعلان التعديل بنفسه، عبر تغريدة على منصة “إكس”، مخاطبًا الشعب الإماراتي مباشرة، بعد التشاور مع رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. فهنا لا مجال للغموض، ولا لحكومات تُعلن قراراتها من خلف الجدران.
ضمن التعديل، تم تغيير اسم “وزارة الاقتصاد” لتصبح “وزارة الاقتصاد والسياحة”، في إشارة واضحة إلى دمج الرؤية التنموية بالبعد الجاذب للموارد البديلة، بينما جرى الإعلان عن خطوة غير مسبوقة: اعتماد “منظومة الذكاء الاصطناعي الوطنية” كعضو استشاري في مجلس الوزراء والمجالس الحكومية كافة، بدءاً من يناير 2026، لتكون جزءاً من عملية اتخاذ القرار، وتقديم التحليل الفوري، والمشورة الفنية.
ما يحصل ليس تعديلاً إدارياً، بل بناءٌ مؤسساتي بذكاء برمجي، وعينٌ تنظر إلى 2050، لا إلى ميزانية السنة القادمة.
قال الشيخ محمد بن راشد: “العالم يمر بمرحلة إعادة تشكيل شاملة، علمياً، واقتصادياً، ومجتمعياً… ونحن نستعد للعقود القادمة.”
وهذا التعديل، في جوهره، ليس استجابة للتحديات، بل مبادرة لصياغة معايير جديدة في كيفية مواجهة التحديات ذاتها.
فوزارة التجارة الخارجية الوليدة، ستتولى مهام لا تقل أهمية عن الدفاع الوطني: حماية مصالح الإمارات في الأسواق العالمية، فتح جبهات اقتصادية جديدة، تنفيذ اتفاقيات CEPA، وتحصين الاقتصاد من أزمات سلاسل الإمداد.
ولأن لغة الأرقام لا تكذب، فقد بلغت قيمة التجارة غير النفطية للإمارات في عام 2023 أكثر من 2.6 تريليون درهم، ومن المتوقع أن تصل إلى 3.5 تريليون درهم بحلول 2025، بدعم من اتفاقيات الشراكة مع دول مثل الهند، تركيا، إندونيسيا وكوريا الجنوبية.
صادرات الإمارات إلى هذه الدول نمت بنسبة 51% خلال عام 2024 وحده، ما يعكس أثر الرؤية وليس العشوائية.
لكن الدور الأكبر للوزارة قد يكون على جبهة الدبلوماسية الاقتصادية، حيث ستُمثّل الإمارات في المفاوضات التجارية الإقليمية والدولية، وتواجه ملفات حساسة مثل مكافحة الإغراق والدعم غير المشروع، وتعيد هندسة التدفقات التجارية بأدوات الذكاء الاصطناعي لا بالبيروقراطيات التقليدية.
وفق رؤية الإمارات 2031، فإن الهدف هو رفع قيمة التجارة غير النفطية إلى أكثر من 4 تريليونات درهم سنويًا، عبر التوسع الذكي في الشراكات، وتحويل الإمارات من منصة للتصدير، إلى عقلٍ مفكر في حركة الأسواق العالمية.
في خلاصة الأمر…
إنشاء وزارة التجارة الخارجية ليس مجرد قرار تنظيمي، بل ترسيخٌ لمنهجية التفكير السيادي طويل الأمد.
فالإمارات، في كل تحرّك، تبرهن أنها لا تؤسس مؤسساتها لتخدم حاضرها فقط، بل لتصنع من حاضرها جسراً نحو السيادة الاقتصادية في عالم تتناقص فيه الثروات، وتتصاعد فيه المنافسة.
فحين تعدّل الإمارات حكومتها، لا تُعدّل أسماء الوزارات فحسب… بل تُعدّل في قواعد اللعبة العالمية.

Related Posts